عن تلك السطوح الأراجيح

عن تلك السطوح الأراجيح

30 اغسطس 2016

منازل في الجزائر.. أكلت الشاشات الحديثة سطوحَنا (إبريل/2014/أ.ف.ب)

+ الخط -

ما زالت حاضرةً في ذاكرتي تلك السُطوح الرؤوفة، معتدلة الارتفاع، التي كانت كالأراجيح، تحملنا لنعلو مزيداً، بعد أن تكون برودة المساء الهابط قد خلّصتها من لسعات القيظ الشديد.

قبل أن تملأها عواميدُ حديدية، كانت تلك السطوح فارغةً تقريباً، يتقاسمها سكّانُ الأبنية المتواضعة التي لا تعلو بأكثر من ثلاثة طوابق أو أربعة، لنشر غسيلهم، فيعيّنون أياماً لكل شقة، وتتبارى النسوة في مَن من بينهنّ غسيلُها الأنصع بياضاً، وقد اصطبغ بطيف الزرقة، بعد إضافة أقراص "النيلي" إليه، أو أيّهن الأكثر عياقةً في ترتيب القطع الصغيرة، أو الكبيرة، لتأتي الأخيرة متدرّجةً في هذا الاتجاه أو ذاك. وكم كانت الخناقات كثيرةً بين تلك التي فوّتت دورها لغايةٍ في نفس يعقوب، وطلعت، في اليوم التالي، فنشرت غسيلها الملوّن بقرب الشراشف البيضاء، أو أنها رفعت غسيل جارتها، وهو لم يشبع بعدُ شمساً وهواء.

وإذ يرفع الجيران الغسيلَ "المقدّد" قليلاً، بفعل جفافه في الشمس السخيّة، والفائحة منه رائحةُ بَرْش الصابون والغار، كنا ننسلّ، نحن الأولاد، قبل مغيب الشمس بقليل، لنلعب ألعابنا السرّية، أو هرباً من القصاص، وأحياناً لاستبدال شارعٍ يُمنع علينا، لهذا السبب أو ذاك. نراقب العالم من علٍ، ونسترق النظرات إلى نوافذ الجيران والأحياء المجاورة المحظورة التي نستحقّ بزيارتها أقسى العقاب.

وفي ما عدا الغسيل، كانت  سطوحنا مكاناً للقاء، وللتبرّد ليلاً حين يفوق الحرّ والرطوبة في صيف بيروت قدرتَنا على الاحتمال، فتضيق بنا الشقق الصغيرة، بشرفاتها الصغيرة التي تقول إننا إنما هنا رفعاً للعتب، ومن أجل إطلالاتٍ صغيرةٍ على خارجٍ هو أشبه بالداخل، كونه لا يعدو المساحة المتاحة ما بين صفّي أبنية متقاربةٍ متقابلة.

ينتحي الرجال ناحيةً مقصورةً عليهم. يفتحون كراسيهم الواطئة، وصناديق طاولات الزهر، ويتمازحون ويتهارشون حول من سيربح، فيما هم منشغلون بتحديد الرهانات. وتباشر النساءُ فلشَ ما جلبنه معهن للتحلية، من فستقٍ حلبي وبزرٍ وبطيخٍ وخيارٍ وبندورةٍ وسندويتشاتٍ مُعدّة للأولاد، إن جاعوا بعد العشاء المبكّر، إذ إنّ الأولاد دائماً يجوعون حين يكونون في العراء.

بعد سنوات، اختلفت السطوح وزرعت فيها غاباتٌ من العواميد الحديدية التي تعلوها، على مستويين، قضبان أفقية متفاوتة الطول، يجدر توجيهها بدقة، لكي تلتقط صور المحطتين أو الثلاث التي كانت تبث برامجها أجهزة التلفزيون آنذاك. إليها كنت أطير، من نافذة سنواتي القليلة وضجري، وأبقى هناك، جائلةً مستكشفة، إلى أن أرتفع فوقها كالفراشات، معتقدةً أنني، ما إن أبلغ قمّتها، حتى يصبح الصعودُ إلى السماء مسألة خطوات. كانت السطوح رفيقة سأمي، وكان جلوسي فيها وقتاً لا يُحتسب أول حاجتي إلى فضاءٍ ومدىً أرسل فيهما نظري، كي يصيد كل ما يقع عليه من أفكار وأحلام.

لكننا، ذات يوم، أُقصِينا تماماً عن سطوحنا تلك، فبعد أن انتُزعت منها غابات الأعمدة الحديدية، حلّت مكانها صحونٌ عملاقة بيضاء، نبتت كالفطر السام، صانعةً لنا مشهداً غريباً، غرائبياً، عرفنا معه إننا نتعرّض لاجتياحٍ ما، وأن الأمور لن تبقى بعد اليوم على حالها، مهما اعترضنا ومانعنا وقاومنا.

وهكذا كان. حلّ زمنٌ آخر، لا يحب الارتفاع، ولا تلائمه الأحلام، زمنٌ كالوباء.

امتنعت عنا السطوح، بسبب مربعاتٍ سوداء اجتاحت بيوتنا. فهي، بعد أن كانت ضخمةً سمينةً صاحبة كروش، تصحو لساعات لترينا برامج محطاتها الاثنتين أو الثلاث، ثم تشخر مستأنفةً إغفاءتها المسالمة، بدأت تفقد من سماكتها حتى صارت شبه مسطحةٍ، لا تكفّ عن الجعجعة ليل نهار، منتزعةً منا الكلام والمعنى وكل انتباه.  

لقد أكلت الشاشات الحديثة سطوحَنا، أكلت أوقاتنا وأفواهنا، أفرغت مخيّلتنا، أفرغت أعيننا، فيما لم تزل السطوح رانيةً، تحنّ إلينا وتنتظر عودتنا ذابلةً، تحت قمر مائل، أو في ظلّ سماءٍ ماطرة.

نجوى بركات
نجوى بركات
كاتبة وروائية لبنانية ومؤسسة محترف "كيف تكتب رواية"