الخطيئة الفرنسية

الخطيئة الفرنسية

30 اغسطس 2016
+ الخط -
فرنسا قلقة ومريضة، وملغمة بتاريخها المعقد، وبتصورها الضيق للهوية، على الرغم من أنها طرف فاعل في عولمةٍ كاسحة وعنيفة. أكثر من ذلك، إنها تسرع الخطى نحو أزمة أخلاقيةٍ عميقةٍ وبدون حدود. هذا ما يشعر به المراقب، وهو يتابع الجدل الدائر هذه الأيام بين مختلف مكونات المجتمع الفرنسي حول الموقف مما سمي "بوركيني".
كان مشهداً فظيعاً عرفته شواطئ مدينة نيس الجميلة. مجموعة من أفراد الشرطة المدججين بالسلاح، وهم ملتفون حول سيدةٍ مسلمةٍ حاملة الجنسية الفرنسية، يطلبون منها أن تنزع لباس البحر الذي ترتديه بعض المتديّنات. وتحت الإحساس بالخوف، أخذت السيدة تنزع لباسها، وبجانبها ابنتها المرعوبة من المشهد الفظيع، ولم يكف ذلك، بل قام مصطافون فرنسيون لمساندة الأمنيين، بالهجوم اللفظي على السيدة، ومطالبتها بمغادرة فرنسا والعودة إلى بلادها الأصلية.
حصل هذا في دولةٍ حدثت فيه قبل قرنين ثورة كبرى، كان شعارها المركزي ثلاث قيم أساسية، الحرية والمساواة والأخوة. وعلى الرغم من أن إرثها الاستعماري ثقيل جداً إلا أنها استفادت كثيراً، اقتصاديا على الأقل، من المهاجرين الذين يريد جزءٌ من الفرنسيين اليوم التخلص منهم، وخصوصاً الذين ينتسبون إلى الإسلام.
لم يعد الأمر يتعلق بسلوكٍ اجتماعي منتشر في صفوف الفرنسيين الذين يمرّون بأزمة اقتصادية صعبة، ومرشحة لمزيد من التعقيد، كما أن هذا السلوك المعادي تجاوز دائرة أقصى اليمين الفرنسي، المعروف باختياراته العنصرية، وبتحميله المهاجرين كل مصائب فرنسا، وإنما تكاد الطبقة السياسية الفرنسية تلتقي حول تنمية الإحساس بالخوف من الإسلام، وأن تجعل منه العدو رقم واحد في مخيلة الفرنسيين، فالرئيس السابق، ساركوزي، الذي أصبح رسميا مرشح اليمين، بأبرز مكوناته، لخوض الانتخابات الرئاسية المقبلة، أعلن أخيراً أنه، في حال انتخابه، سيمنع الحجاب، وليس فقط النقاب، في المدارس ومؤسسات الدولة، وحتى الفضاء العام، بحجة أن هذا اللباس يمثل تهديداً للأمن القومي الفرنسي وللائكية والهوية الوطنية. وهو إذ فعل ذلك، لم يعبر فقط عن جنوحٍ متأصل لدى اليمين المحافظ، وإنما تعمد أيضاً قطع الطريق أمام الاشتراكيين الذين يقودون، حالياً، هذه الحملة المعادية للباس البحر "بوركيني"، أي أن الأحزاب الرئيسية الفرنسية دخلت في مزايداتٍ بين مكوناتها، لإثبات أيٍّ منها أكثر قدرة على استئصال هذه الظاهرة، وإجبار أبناء الجالية المسلمة على الدخول إلى بيت الطاعة. وقد حدّد الباحث الفرنسي، فرنسوا بيرقا، المختص في الحركات الإسلامية، خصائص هذا البيت، عندما ذكر، في تعقيب له على الجدل الدائر حالياً، إن "الاندماج عند فرنسيين كثيرين هو باختصار أن تصبح الجالية المسلمة غير مسلمة".
على الرغم من هذه الموجة الكريهة ذات المنحى العنصري، إلا أنه لا تزال في فرنسا مؤسسات قوية قادرة، إلى حد ما، على أن تكبح هذه الموجة، وأن تتصدّى لكل القوى التي تقف وراءها. وفي هذا السياق، يجب التنويه بقرار مجلس الدولة الفرنسي، القاضي بإيقاف العمل بقرار بعض البلديات الفرنسية، لمنع هذا الزي، بسبب مخالفته الدستور، وتعارضه مع حرية المعتقد، وفتحه المجال للاعتداء على الحريات الشخصية. كما اعترضت منظمات عديدة لحقوق الإنسان، إلى جانب مثقفين ساءهم أن تتورّط بلادهم في مثل هذه المعارك الوهمية والمسيئة للقيم الفرنسية الثورية.
ذكّرني مشهد تلك السيدة التي نزعت حجابها تحت التهديد بمحجباتٍ كثيرات، نزع حجابهن بالقوة، في عهد الرئيس التونسي السابق، زين العابدين بن علي، للغرض نفسه وبالحجة نفسها. يومها، كان ساركوزي يوفر للمستبد التونسي كامل الدعم، لكي يستمر في قمع الحريات، كما كان يربت على أكتاف العقيد معمر القذافي، حتى يبيع له مزيداً من الأسلحة، ويساعده على تغطية نفقات حملته الانتخابية.
ما يحدث في فرنسا دليل آخر يذكّرنا أيضا بالذين يدّعون أنهم حماة للإسلام، في حين أن سيئات أعمالهم، وتطرّفهم العنيف، من شأنهما أن يوفرا المجال المناسب لإذلال المسلمين، وإضاعة حقوقهم في كل مكان، بما في ذلك الدول الديمقراطية.