رهاب البوركيني أم الاختلاف؟

رهاب البوركيني أم الاختلاف؟

30 اغسطس 2016
+ الخط -
بوركيني أم بيكيني؟ بات لباس البحر "المحتشم" للنساء المحجبات أو الملتزمات دينياً (أو المحافظات اجتماعياً) يختزل معركة الاختلاف الثقافي في فرنسا ما بعد العمليات الإرهابية التي استهدفت الدولة العلمانية. تجاوزت أزمة البوركيني عامّة النساء إلى نجماتهن، مع تصريح النجمة الفرنسية إيزابيل أدجاني إن منع النساء من ارتداء البوركيني على السواحل الفرنسية "خطير ومثير للسخرية"، معتبرة أن المنع يقوّي حجة الإسلاميين واليمين المتطرّف معاً. ومن رجال السياسة في العالم، اعتبر رئيس الوزراء الكندي، جوستن ترودو، إن منع البوركيني خطوة ضد التنوع الثقافي، وإن قبول ارتداء نساء لباس البحر الإسلامي تعبير عن قبول الآخر. احتدمت حدة النقاش، مع إرغام الشرطة الفرنسية سيدةً على نزع البوركيني على شاطئ مدينة نيس، في أجواء ابتهاجٍ من مرتادي الشاطئ وهتافهم للسيدة "عودي إلى بلدك"، وهو الهتاف الشهير الذي بات أحد أبرز ميزات الشعبوية الأوروبية المتنامية.
يتنازع أزمة "البوركيني" خطابان: يقول الأول إن ارتداء البوركيني قد يمثل تماهياً مع شعارات الإرهاب، ويشكّل ارتداداً على ثقافة الدولة العلمانية التي ترفض "استعباد" أجساد النساء. بالنسبة لحملة هذا الخطاب، البوركيني أحد أشكال هذا الاستعباد المفروض على النساء من أصول مهاجرة. ولذا، لا يمكن القبول بإشهاره في المجال العام، باعتباره ظاهرة طبيعية، ولا يمكن التعاطي معه إلا باعتباره تعبيراً عن مشروع سياسي، يريد تغيير وجه الدولة العلمانية. يقول الخطاب الثاني إن تغطية الجسد، سواء عبر الحجاب أو لباس البحر المحتشم، خيار شخصي للتي تريد أن تتجول في المجال العام بأريحية، وأن تمارس حرياتها، من دون أن تتخلى، في الوقت نفسه، عن هويتها الدينية أو المجتمعية.

أظهرت أزمة البوركيني المتفاقمة فراغ جعبة الحكومة الفرنسية ونظامها من محاولاتٍ جدّية لمعالجة الأزمة الأساس، وهي إدماج المهاجرين، والتعاطي مع تنوعهم الثقافي، باعتباره واقعا لا يمكن إبقاؤه داخل أسوار الضواحي المعزولة. الجمهورية العلمانية الغاضبة من استهدافها عبر هجماتٍ إرهابيةٍ دمويةٍ ينفذها أبناؤها، اختارت أن تنتصر على مهاجميها بإعادة النساء إلى الغيتو الثقافي، ومنعهن من ارتياد الشواطئ العامة في لباسٍ يغطي أجسادهن، إلى جانب النساء الفرنسيات المتحرّرات. لا تريد الجمهورية أن تغير واقع حال هؤلاء النساء، بل فقط أن تبقيهن داخل أسوار بيئتهن الاجتماعية ساكناتٍ في منازلهن، كي لا يعرضن اختلافهن أمام الرواد الفرنسيين، العلمانيين والعلمانيات.
في المقابل، قدّمت وسائل إعلام غربية، أو عربية، مواد تعريفية بالحجاب، بوصفه اختياراً شخصياً للنساء الراغبات في التمتع بأمنٍ اجتماعي، بعيدا عن أنظار الرجال، من دون أن يضطررن للانعزال عن نشاطاتهن الاجتماعية. تساهم الصورة الإيجابية التي تقدمها هذه المواد الإعلامية في التصدّي لتزايد سطوة القوالب السلبية التي تقدّم مرتديات الحجاب، أسوةً بمرتادات البحر بلباس البوركيني، خطراً على مجتمعاتهن، ومؤشراً لتمدّد التطرّف الإسلامي في المجتمعات الغربية. إلا أن هذه الصورة الإيجابية التي تبدو فيها النساء منسجماتٍ ومتصالحاتٍ مع أنفسهن تهمل حقيقية أن قسماً غير قليل من هؤلاء النسوة لا يتمتعن بخيار ارتداء البيكيني، أو البوركيني، وضع الحجاب أو خلعه، وأن تصويرهن على أنهن سيدات قرارهن تبسيط لواقع النساء المنتميات الى بيئاتٍ محافظةٍ، حيث يعتبر جسد المرأة أحد أبرز تعبيرات الانتماء إلى هذه البيئة، عبر التقنين والتقييد والتغطية. قد لا يكون أمام مرتادات البحر بلباس البوركيني خيار آخر، سوى البقاء في المنزل، أو القبول بارتدائه، باعتباره المسموح به عائلياً واجتماعياً، لارتياد شاطئ البحر. لا يخفي لباس البوركيني تفاصيل الجسد، بل على العكس يبرزها ما يجعل ارتداءه أساساً حكراً على البيئات التي تعتبر أكثر تسامحاً من غيرها في التعامل مع نسائها وأجسادهن. مفردات الحظر كثيرة، ولعل أقلها تقييداً لباس البوركيني.
كتب أستاذ التاريخ في جامعة تل أبيب، شلومو ساند، في مقال نشرته مجلة "لو نوفيل أوبسرفاتور" الفرنسية، أن الرّهاب من اليهودية تحول إلى رهابٍ من الإسلام في الجمهورية الفرنسية العلمانية التي قامت على قمع الهويات الخاصة التي سبقت تأسيسها، أو التي تهدد أحادية انتماءات أبنائها. في هذا الإطار، يشكّل قبول التنوع تهديداً لاتساق الجمهورية العلمانية وتماسكها. الخطورة أن اتخاذ أحد شعارات اللباس الإسلامي (أو الذي ينسب إلى الإسلام) إطاراً يختزل الحرب على التطرّف الإسلامي قد يحول المسلمين المعتدلين، وفي مقدمهم النساء، إلى هدف يومي للتمييز والإقصاء. تقول بريطانية هندية مسلمة، تم إخراجها من الطائرة في مطار ستانستد، لاشتباه الركاب بها، في مقالة نشرتها صحيفة الغارديان البريطانية: سألتني الشرطة إن كنت أتحدّث الإنكليزية، وأنا لا أتحدّث سواها، وكأن الانتماء إلى الثقافة الغربية وإلى الإسلام لا يمكن أن ينسجما. لا فرق إن كنت ولدت وتربيت في لندن، أو أني التحقت بالجامعة لدراسة الأدب الإنكليزي. يبدو أنه سيحكم علي دوماً أولاً من الغطاء على رأسي.



دلالات

A6CF6800-10AF-438C-B5B5-D519819C2804
فاطمة العيساوي

أستاذة لبنانية في جامعة إيسيكس البريطانية. ترأست بحثا في تأثير عملية الانتقال السياسي على الإعلام المحلي في دول الثورات العربية. صحافية مستقلة ومدربة وخبيرة في التشريعات الاعلامية في العالم العربي.