حتى متى يا بطاركة سورية؟

حتى متى يا بطاركة سورية؟

29 اغسطس 2016
+ الخط -
صدر أخيراً بيان عن بطاركة الكنائس المسيحية الثلاث، المقيمين في دمشق، في 23 أغسطس/ آب الجاري، بعنوان "كفى حصاراً عن الشعب السوري، أرفعوا العقوبات الدولية عن سورية". من المنتظر من بطاركة الكنائس أن يصدروا أكثر من بيان، يتحدثون فيها عن مأساة سورية، ويطرحون مواقف مسيحية مسؤولة وشجاعة، بصوت نبويٍ يحمل ثورة المسيح الاجتماعية في قلب العالم. ولهذا، صدور بيان عن البطاركة واجب وطني وكنسي وأخلاقي. ولكن، حين يتمعّن المرء في البيان الصادرلا يسعه سوى أن يشعر بالإحباط الأخلاقي والفكري من محتواه.
يدور البيان، برمته، حول مسألة العقوبات الدولية، وما تقود إليه من حالةٍ اقتصاديةٍ سيئةٍ، وضغوط معيشية على السوريين، مطالباً المجتمع الدولي برفع العقوبات الاقتصادية والمالية، بحجة أنها لا تحقق أي تأثير سوى على حياة الناس اليومية، ومعيشتهم التي تزداد ازدراءً يوماً بعد آخر. يتفق مبدئياً العارف بتفاصيل المأساة السورية مع تلمس البطاركة الحالة الاقتصادية والمعيشية المزرية التي وصلت إليها حياة السوريين داخل البلد، بعد أكثر من خمس سنوات من الحرب والدمار والقتل والتفتيت. وطبعاً تلك الحالة المزرية أمر مُدان، لأنها تنتقص من كرامة السوريين، إذ تحرمهم من أساسيات العيش بإنسانية، غير أن نقدي موجَّهٌ لما يمتنع البيان عن تسميته، والإشارة إليه من مسبّبات تلك الأزمة المعيشية في السياق السوري.
يبدو البطاركة وكأنهم يقولون إن سورية عندها أزمة مع المجتمع الدولي، وليس أزمة داخلية بنيوية ومصيرية، مسبباتها عناصر سورية بالدرجة الأولى. وكأن سورية بلد طبيعي وآمن وسالم ومستقر من باقي النواحي، عدا الاقتصاد والحالة المعيشية، وليس فيها أي نظام فاسد مجرم إرهابي متغوّل في النهب والسلب والسرقة، لطالما مصّ عرق الناس، وتحكَّمَ بأرزاقهم، ومازال يفعل ذلك، من دون توقفٍ، ولا رحمةٍ، أو شفقةٍ يمكن أن تثيرها حالة الحرب التي يعيش تحتها شعب سورية المنتهَك منذ سنوات. لنتذكّر أن تلك العقوبات تشمل، بشكل رئيس، قوائم حجر ومنع، تتضمن أسماء عشرات من لصوص البلد، ومافياتها، ومجرميها الذين ابتلعوا كل ما يمكن تسميته اقتصاداً في سورية في العقود الماضية، وصاروا أمراء حرب وارتزاق. لا يتجرأ رجالات الكنيسة على القول، في البيان، إن سبب معاناة الناس اليومية في سورية هو بالدرجة الأولى إجرام وفساد عصابة حاكمةٍ، لم تتوقف عن السلب والنهب، حتى في قلب الحرب، توظف صوت رجالات الكنيسة في عملية ضغط على المجتمع الدولي، لكي يطلق يد لصوصها وسارقيها ومافياتها من رجال أعمال وسلطة وأمن وحرب بأن يفك عنهم العقوبات الاقتصادية.
يكتب البطاركة عن حالة الشعب السوري، من دون أن يذكروا ولو كلمة واحدة عن حالة الحرب والموت والدمار والتهجير والتشريد والنزوح المفجعة التي تسببت بها حربٌ شعواء مدمرة بين نظام مجرم ومعارضاتٍ لا تقل إجراماً، أدت إلى قتل نصف مليون إنسان حتى الآن، وتشريد واقتلاع أكثر من 12 مليون سوري من أراضيهم، وتدمير البنية التحتية في معظم المدن السورية. لا يقوم ضمير البطاركة، لكي ينادي بوقف الحرب، أو ليطالب المجتمع الدولي بالضغط على الأطراف المتصارعة، لكي تجلس على طاولة تفاوض، وتجد حلاً كاملاً يحتاجه السوريون لكي يعيشوا وتحتاجه سورية كي تبقى بلداً. لا يعني هذا البطاركة في شيء أبداً، مع أنه هو السبيل الأول والأساس لتخليص الشعب السوري من أزمته المعيشية، ومن معاناته الاقتصادية. كل ما يعنيهم هو رفع العقوبات الملقاة أصلاً على النظام ومافياته، وليس الشعب. والحجة أن الشعب هو الذي تضرّر وليس النظام. لماذا لا تقول الأصوات الكنسية
للنظام، وللجهاديات المعارضة المتحاربة على الأرض، إن قتالهم بين ظهراني الناس والمدنيين في المناطق المأهولة وقصف الأحياء السكنية لا يؤذي سوى الناس دون سواهم؟ أم أن المنطق التبريري المستخدم في البيان ينطبق على مسألة العقوبات الاقتصادية الخارجية، ولا ينطبق على الاقترافات التدميرية والإجرامية الداخلية، والتي تستحق أن يصدر بيانٌ عنها قبل سواها؟
يا قادة الكنائس، إن كنتم فعلاً ترون وضع الناس عن كثب، كما تّدعون في بيانكم، فكيف تبرّرون صمتكم بشأن معاناة هذا الشعب، وأنتم ترون هؤلاء الناس يموتون ويبادون ويشرّدون وتنتهك إنسانيتهم بكل معانيها كل يوم، من آلات حربٍ عمياء عدمية؟ ألا تخجلون، وأنتم الذين بالكاد تسمعون صوت السوريين وآلامهم، إلا في الشديد الندرة منذ خمس سنوات، أن لا يتضمن صوتكم أي دعوةٍ إلى وقف الحرب والاستبداد والفساد، كي تتحرّر العباد، وتتمكّن من الوجود كمواطنين، لا كغنمٍ يساق إلى الذبح كل يوم؟ ألا تخجلون أن تختصروا بيانكم عن مأساة السوريين بمجرد عقوبات اقتصاديةٍ وإغلاق سفاراتٍ دبلوماسيةٍ غربية، وكأن خروج الشعب السوري من مأساته يماهي عندكم خروج النظام من أزمته؟ بأي صوتٍ مسيحي، بأي إنسانيةٍ تصدرون مثل هذا الاختزال لجوهر التراجيديا السورية، في الوقت الذي يحتاج السوريون، أجمعون، إلى من يصرخ عن مأساتهم في عمق طبيعتها، وجوهر مسبباتها أمام العالم؟
سيعمق البيان الصادر الشرخ بين المسيحيين والآخرين في الوطن، إذ سيعزّز الأكذوبة القائلة إن المسيحيين يقفون مع النظام، ولا يكترثون إلا لمعيشتهم اليومية، وإنهم لا يعانون كالباقين من هول مأساةٍ من الفداحة بمكان اختزالها بنداءٍ يتعلق بجانبيها، المعيشي والاقتصادي فقط. كلا، ليست أزمة الشعب السوري مجرد عقوبات اقتصادية، مع حقيقة سوء معيشتهم وبؤسها وضرورة رفضها وإدانتها. لا نجاة للسوريين سوى بالاعتراف بأنَّ أزمتهم هي واقع الإرهاب والفساد والاستبداد والتغوّل في الصراع على السلطة. حتى متى، يا قادة الكنائس، ستبقون عبيداً لخوفكم الشخصي؟ حتى متى سترمون المسيحيين السوريين في أتون أخطائكم... حتى متى؟

74EC57AC-7CE4-4F93-8DCF-37FD2FB0F019
نجيب جورج عوض

شاعر وباحث أكاديمي وأستاذ جامعي سوري، بروفسور اللاهوت المسيحي ورئيس برنامج الدكتوراه في كلية هارتفرد للدراسات الدينية وحوار الأديان في ولاية كونكتكت في أميركا.