الإسلاميون و"فقه عنترة" والمعارك البديلة

الإسلاميون و"فقه عنترة" والمعارك البديلة

25 اغسطس 2016
+ الخط -
كثيرون منا، وخصوصاً الجماعات التي تتخذ من الإسلام متكأ أو محتوى إيديولوجياً، لديهم خلل فيما يسميه الفقهاء المعاصرون "فقه الأولويات"، فهم مولعون بخوض المعارك البديلة، منشغلون بها عن خوض المعارك الرئيسة، لأن خوض الأولى أسهل بكثير من خوض الثانية، بل إنك ترى بعض هؤلاء يستمتع كثيراً بقنص هدف سهل، لإفراغ كل سمومه فيه، فيما يترك الخصم الرئيس في مظالمه.
مقاربة شديدة الدلالة على هذا، تُستعار، هنا، مما يمكن تسميته "فقه" عنترة في القتال، فقد قيل لعنترة مرة: أأنت أشجع العرب وأشدّها؟ فقال: لا. فقيل. فبماذا شاع لك هذا في الناس؟ قال: كنت أقدم إذا رأيت الإقدام عزمًا، وأُحجم إذا رأيت الإحجام حزمًا، ولا أدخل إلا موضعًا أرى لي منه مخرجًا، وكنت أعتمد الضعيف الجبان فأضربه الضربة الهائلة التي يطير لها قلب الشجاع، فأثني عليه فأقتله. وليت المغرمين بخوض المعارك البديلة هنا يستلهمون كل الفقه العنتري، فيأخذونه كله، لأن فيه من الحكمة الكثير، ولكنهم يكتفون بالبحث عن هدفٍ سهل للبطش به، لا لإطارة قلب الشجاع، بل لأنهم لا يقوون على مناجزته أصلاً، فينشغلون بما هو أقل منه شأناً، ويفرغون سمهم فيه، ويتركون الهدف الأهم، فمثلاً حين يقنص هؤلاء كاتباً أو كاتبة، نشر رأياً أو صورة فيها تعدٍّ على الدين، أو نيلٍ منه، ولو من باب إبداء الرأي، يحملون عليه حملة رجل واحد، ويوسعونه تكفيراً، ويجعلون منه هدفاً لكل سهامهم، باعتباره الخصم اللدود الأوحد، وهم يدركون، قبل غيرهم، أن خصمهم ليس هنا، بل في مكان آخر، لكنهم لا يستطيعون مواجهته، فيفرغون سمومهم في هذا الهدف البديل.
معظمنا مغرمون بخوض المعارك البديلة، بهمة ونشاط مُنقطِعَيْ النظير، لأنهم عاجزون عن خوض معاركهم الرئيسة، كم هو مُذلٌّ أن تضع كل همّتك، وتحشد كل ما لديك من قوة، في شن معركةٍ ضد هدف ثانوي جداً، وتترك خصمك الرئيس يرتع بمظالمك، ويغتصب حقوقك الأساسية، ولا تجرؤ حتى على فتح فمك احتجاجاً.
قد يكون افتعال المعارك الجانبية، أو البديلة، اختراعاً ذاتياً، بحيث يستمرئ الإنسان الهجوم على
البردعة والتحرّش بها، لأنه لا يريد أن يُغضب الحمار، وقد يكون مؤامرةً كاملة الأركان، يقع فيها المغفلون، عن طيب خاطر، بوعي أو بدونه، حيث ينشغل القوم عن همهم الأساس بهمٍّ آخر، أقل شأناً، وليس الوقت وقت الانشغال به، لأن ثمّة هماً أكبر منه وأكثر خطورة، وهذا بالضبط ما تفسّره قصة كيس الفئران التي شاعت كثيراً على ألسنة الناس، واستخدمها كتّاب كثيرون، لدلالاتها الخطيرة، وهي أن مهندساً زراعياً كان يعمل في إحدى قرى صعيد مصر، أراد الذهاب إلى أهله في القاهرة، فركب بالقطار، وجلس بجانب رجل قروي فلاح مسن، بين قدميه كيس من الكتان الكبير، وكان القروي، كل ربع ساعة، يقوم بتقليب الكيس وخلطه، ثم يثبته بين قدميه ويرتاح. واستمر الأمر هكذا ثماني ساعات، مدة مشوار الطريق. والهدف من هذا كله، كما يتبين من القصة، إشغال الفئران التي في الكيس كلما هدأت بمقاتلة بعضها بعضاً، لأنها إذا استقرّت بدأت قضم الكيس، وتحرّرت من الأسر.
لا يحتاج المرء لعبقرية خارقةٍ، حتى يدرك أن ثلثي معاركنا التي نخوضها، وتكلفنا كثيراً من الدم والوقت، وهدر المستقبل، هي من هذا النوع التي تخوضها الفئران مع بعضها، ولو وعت اللعبة ولو برهة، لتحرّرت من "الأسر"، بدلاً من الانشغال بمقاتلة بعضها.
نحن في الشرق في قارب واحد، بغض النظر عن دياناتنا أو مذاهبنا أو أعراقنا، ونحن محشورون في هذا الكيس، ولو قيّض الله لنا عقلاً جمعياً واعياً، لأدركنا أن غالبية الصراعات المستعرة اليوم في بلادنا، لا تخدم إلا ذلك القروي العبقري الذي يمثله الغرب ومؤسسات صنع القرارات والدسائس والمؤامرات فيه، لإبقائنا في حالة فئرانية مذلة، كي لا نخرج من كيس التخلف والاستلاب والقهر والحروب الأهلية، والمذهبية! ونسأل بأسى وحرقة: أيها الفئران، في كيس القروي، أليس فيكم فأر رشيد؟
أبناء أمتنا غارقون في معارك بينية، وجدل بيزنطي مهلك، فيما دماؤنا تسيل في غير بؤرة من 
بلادنا. في فلسطين يخوض الاحتلال حرباً ضروساً بشكل يومي، لا تحظى إلا بتغطية سخيفة من وسائل الإعلام العربية والأجنبية. وفي سورية والعراق وليبيا مجازر مفتوحة، في حروبٍ تُدار معظمها بالوكالة. وثمّة كثيرون منا منشغلون في صراع بيزنطي ديني وأيديولوجي، بين من يسمّون أنفسهم تنويريين ومن يرون أنهم متدينون، ومسؤولون عن حراسة الجنة، وكل منهما أضاع البوصلة أو كاد، في استغراقه في إدارة صراع بديل عن الصراع الأساس، وكلاهما في سفينة واحدة، ومن يخرقها عدو واحد، مستمتع بصراع بعيد عن بيته.
العرب والمسلمون منشغلون بجدل مذهبي وإثني وفكري، بعضه مضمخ بالدم، وثمّة فئة توهم نفسها أنها تدافع عن الدين، وأخرى تعتقد أنها تدافع عن حرية الفكر والتعبير، وكلا الفئتين تقعان تحت نيرانٍ واحدة، لعدو لا يسأل حين يقتل عن المذهب أو المعتقد الفكري، فإلى متى يغرق القوم بهذا البلاء؟ بلادنا اليوم كلها برسم السقوط، إن لم يسقط معظمها، ونحن لاهون عن الخطر المحدق بها، بصراعٍ بيني، حتى قبل أن ينال المتصارعون حقهم الأوْلي بحياة كريمة، تليق بهم.