ماذا بعد انهيار جولة أديس أبابا السودانية؟

ماذا بعد انهيار جولة أديس أبابا السودانية؟

23 اغسطس 2016
+ الخط -
أثار خبر توقيع قوى "نداء السودان" على خريطة الطريق في أديس أبابا في الثامن من أغسطس/ آب الجاري موجة متفائلة داخل السودان وخارجه. وذهبت وسائل إعلامية سودانية إلى اعتباره اختراقاً مهما بعد طول انتظار. ونظر إليه متفائلون كثيرون، في السودان خصوصاً، فرصة ذهبية جديدة. وطفق المحللون في السودان يربطون بين التوقيع ومشاهد شبيهة من اتفاقي ماشاكوس ونيفاشا، وغيرهما، ويرون في الحدث أن شيئاً ما تحرّك أخيراً، وفي الوجهة الصحيحة لحلحلة أزمات السودان. وحتى أن أطرافاً معارضة موقعة على خريطة الطريق، مثل "قوى نداء السودان"، رأت، كما قال الأمين السياسي لحركة العدل والمساواة سليمان صندل، أن الثامن من أغسطس 2016 "يوم تاريخي ومشهود، والكل يأمل أن يكون ذلك التوقيع خطوةً وطنيةً نحو وقف الحرب وزراعة الأمل في قلوب الشعب السوداني، لمواصلة النضال من أجل القضايا المصيرية، ممثلة في الحرية الحقيقية، واستعادة النظام الديمقراطي وسيادة حكم القانون والعدل والمساواة والحفاظ على وحدة السودان أرضاً وشعباً". ويبدو أن هذه الكلمات نجحت في تصوير الحال المأمول، والمراد تحقيقه من المفاوضات في أديس أبابا، هو ما يريده المعارضون وما يأمله الشعب السوداني من الأطراف المشاركة مجتمعة. كانت ثمة مطلوبات عاجلة كفيلة بالتعبير عن حسن النيات وصدقها، والجدية قبل كل شيء، من وقف العدائيات، كما يصفها الطرفان، حكومة ومعارضة، وهي الصورة المخففة للحرب الدائرة في المناطق الثلاث، دارفور، جنوب كردفان، جنوب النيل الأزرق. ومن ثم يتبعها التفاوض على حلحلة القضايا السياسية، وفي مقدمتها استعادة النظام الديمقراطي وإطلاق الحريات وسيادة حكم القانون.
ومن المسلم به أن رئيس الآلية الأفريقية، ثابو أمبيكي، يمثل الرؤية الدولية للحل المطلوب في السودان، لوقف هذا الصداع السوداني المستديم، من دون كثير اهتمام بتفاصيل بالكيفية. وهذا جزء من نظرة عامة للقوى الدولية تجاه القارة الأفريقية، فهي قارة منسية حالياً، ولا تدخل ضمن مسار التجاذب الدولي الساخن، إلا في جزئياتٍ صغيرة، فلا توجد قوى أوروبية، ولا أميركية، راغبة في دعم الديمقراطيات الأفريقية، ناهيك عن القول عن دعم خطوات التنمية الأفريقية المتعثرة. السودان ضمن هذا السياق، والشمال وجنوب السودان، يراد له أن يوقف حالة عدم الاستقرار كيفما يتفق، دونما اعتبار للأسس الحقيقية الكفيلة بإيجاد حلول مستدامة للصراع فيه. فالمطلوب أوروبياً وأميركيا، على الأقل في السودان، ليس حل مشكلة دارفور وحدها، وإنما إيجاد حل شامل لأزمات السودان كلها، وحل أزماته السياسية والاقتصادية، في مؤتمر شامل بمشاركة كل المكونات السياسية في البلاد، ويخاطب مشكلات البلاد مجتمعة. وهذا جميل، ويجد الدعم والمساندة. ولكن، واقعياً ليس هناك سوى التجاهل للكيفية التي ينبغي أن يتم بها تحقيق هذا الهدف.

مثلاً، الحكومة السودانية في يدها وعليها عبء التقدم، أكثر من غيرها من معارضيها تجاه السلام الحقيقي، ومخاطبة أزمات البلاد، غير أن أقصى ما تريده أن تستغل الموقف الدولي الخجول تجاه مآسي السودان، وتتواضع في مطالبها برفع الحصار، أو الدخول في مغازلةٍ قويةٍ مع الولايات المتحدة، برفع اسمها عن الدول الداعمة للإرهاب. وتنسى أن المعارضة، أو من تغازلهم من دول كبرى، يتفقون، في جانب مهم، وهو المشاركة في الحكم، ومخاطبة شاملة لأزمات السودان والحريات. وهذه قضايا مرفوضة جملة وتفصيلا من الحكومة. وحينما تحاصر دولياً بضرورة الحوار، تخترع حلا ساذجاً "الحوار الوطني"، وحينما تعزف عنه القوى الرئيسية، تقول "الحوار بمن حضر".
اشترطت الدول المانحة أن توقف الحكومة الحرب في المناطق الثلاث، قائلين "لن نقوم بتمويل حربٍ مفتوحةٍ، يتقاتل فيها طرفان، وندفع فاتورة الدمار". واشترطت لتقديم العون الإنساني أن تسمح الحكومة السودانية للمنظمات الدولية للإغاثة، وغيرها، حرية الوصول إلى مواقع المتضررين، من دون حواجز حكومية مصحوبة بادعاءات وإيحاءات أن هذه المنظمات "ذات أجندة". وهذا ما لم يحدث الى اليوم. ولهذا كله، أزعم أن الفكرة المسيطرة للمشاركين في الجولة المنهارة هو تقديم دليل براءة للقوى الدولية، وإخلاء طرف من تهمة تعطيل التفاوض المفضي إلى الحل. أضف إلى ذلك استمرار الموقف الغامض "لعلاقة الحب والكراهية" تجاه الحكومة من جانب عنصر القوة الأهم في المعارضة، والمتمثل في شخص الصادق المهدي، فهو من ناحيةٍ يريد الحكومة المعدّلة لا التغيير الشامل. ولعل أفضل دليل على ذلك أنه يدّعي رغبةً قويةً في ذهاب الحكم، وحشد الناس لهذا الغرض، فيما يمثل بقاء ابنه وساعده الأيمن داخل الحكم وفي أعلى مفاصله. وهذا ما يضع سؤالاً كبيراً يظل يلاحقه .. أن من عجز عن إقناع فلذة كبده بخطأ موقفه، ويرضى به، وألغى في كل ما يعيبه على الحكم، فكيف به يريد أن يقنع الشعب السوداني والنظام نفسه بضرورة التغيير. وهذا الموقف الملتبس للصادق المهدي، وأسوأ منه درجات موقف الطائفي الآخر، محمد عثمان الميرغني، هو ما يغذّي تمادي الحكومة في المراوغة محلياً ودولياً، وتخاطب كلاً بما يحب أن يسمع.
وإذا كانت جولة أديس أبابا المنهارة مجرد جولة دبلوماسية فاشلة، لتسويق كل طرف نفسه، فإن السودان وشعبه هو الخاسر الحقيقي، إذ إن البديل الذي دعا إليه الصادق المهدي، في كلمته أمام قوى "نداء السودان"، عقب انهيار المحادثات، وهو الانتفاضة، ينقصها شيء رئيسي، هو الإرادة الحقيقية، ومن جانبه بالذات، فما جرى يجسد الحالة الخطرة من الدورة الخبيثة المهيمنة على الحياة السياسية في السودان، فالطرفان أدركهما الإرهاق التام، وليس لدي أيٍّ منهما القدرة على الحل العسكري الحاسم، كما ليس لديه رؤية سياسية واضحة للخروج من الأزمة. وحتى أن كل مكونات فكرة الانتفاضة الشعبية موجودة، فالأزمة السياسية والاقتصادية والاجتماعية حادة، لكنها تفتقر إلى قيادة لديها قدر من الوضوح وإقناع الذات قبل إقناع الآخرين.






0CD72F94-2857-4257-B30C-7F645EA599D7
طارق الشيخ

كاتب وصحفي سوداني، دكتوراة من جامعة صوفيا، نشر مقالات وموضوعات صجفية عديدة في الصحافة العربية، يعمل في صحيفة الراية القطرية، عمل سابقاً رئيس تحرير ل "الميدان" الرياضي السودانية.