الصراعات الإقليمية والأزمة السياسية في ليبيا

الصراعات الإقليمية والأزمة السياسية في ليبيا

03 اغسطس 2016
+ الخط -
بينما كانت التوجهات الدولية، في مايو/ أيار الماضي، تتجه نحو التعاون الأمني مع حكومة الوفاق الليبية، ورفع قدراتها العسكرية، إلا أنه، في الفترة اللاحقة، تصاعدت توجهات تشديد الرقابة على التسلح والتعاون في المجال الأمني، حيث اتجه حلف الأطلسي والاتحاد الأوروبي لتدشين عملية "الحرس البحري" بهدف معالجة القصور في عملية صوفيا الأوروبية، بعد إخفاقها في منع الهجرة غير الشرعية، ويأتي إقرار هذه السياسة في غموض المواقف الدولية تجاه دعم حكومة الوفاق والصراع المسلح في ليبيا. 
وعلى مسار التوجهات الدولية، هناك توسّع في دور حلف الأطلسي، وكان التغير اللافت في قمة وارسو 2016 في دخول الحلف في الحرب ضد تنظيم الدولة الإسلامية، ليزاحم التحالفات الدولية. وهنا، يمكن ملاحظة أن السياسة الدولية تجاه ليبيا صارت أكثر ارتباطاً بالتغيرات الإقليمية، حيث أن توسيع عملية صوفيا، وانضمام الحلف إليها يعد امتداداً لدور مجموعة الدول الكبرى (الولايات المتحدة والدول الرئيسية في الاتحاد الأوروبي) لتوضح أن هذه الكتلة تهيمن على مسار التعامل الدولي تجاه ليبيا، خصوصاً في ما يتعلق بمكافحة الهجرة الشرعية وتطبيق حظر السلاح .
وإذا كانت الهجرة غير الشرعية تشكّل تحدياً رئيسياً لأوروبا، فإن التطبيق الصارم لحظر السلاح تصعب قراءته بمعزلٍ عن التوجهات العامة لحلف الأطلسي، سواء في ما يتعلق بتوسيع سياساته العسكرية أو تناقضاته الداخلية. ويمكن القول إن سياسات الدول الكبرى تجاه ليبيا لا ترتبط فقط بمدى التقدّم في الحوار السياسي، أو إنجازات حكومة الوفاق الوطني، تمهيداً للحل السياسي، لكنها وثيقة الصلة بمسار السياسات الأمنية والعسكرية في منطقة البحر المتوسط ومنطقة شرق أوروبا وروسيا.
ويمكن النظر إلى التطورات الجديدة في قمة "الناتو" في وارسو، من وجهة أنها تعكس مدى التضامن بين الاتحاد الأوروبي والولايات المتحدة، تجاه ما تعتبره مخاطر آتية من روسيا والأناضول والشرق الأوسط، فالتوجهات العسكرية للحلف لا تبدو بعيدةً عن محاولة الانقلاب العسكري في تركيا، ليس فقط بسبب التقارب الزمني بين انعقاد القمة واندلاع الأزمة في تركيا، ولكن، بسبب الحملة السياسية الأميركية والأوروبية وتهديدها بفقد العضوية في "الناتو"، مما يشير إلى وجود علاقاتٍ قلقةٍ تحول دون استقرار العلاقات بين تركيا والأعضاء الرئيسيين في "الناتو".
وبشكل عام، لا يعكس ظهور قوات فرنسية في ليبيا تحولاً في السياسة الفرنسية، فمنذ اندلاع ثورة فبراير 2011 استمرت فرنسا في التدخل المباشر، لكن المعضلة تتمثل في أن الانحياز المباشر لجانب أحد الأطراف الليبية يعد مخالفة لقرارات مجلس الأمن، ولعل المسألة الأساسية التي أشار إليها المبعوث الأممي الخاص إلى ليبيا، مارتن كوبلر، تتمثل في إقرار وجود مجموعةٍ من القوات الخاصة الفرنسية والأميركية (صحيفة العرب، 02/06/2016) تعمل في ليبيا، لكنه لم يوضح مواقع انتشارها.
وهنا، تثير مشاركة عسكريين فرنسيين في العمليات العسكرية لعملية "الكرامة" أو "دم الشهيد"
لاحقاً الجدل حول مشروعية عدم خضوع القوات (الخبراء) الفرنسية، أو غيرها، لحكومة الوفاق، مما يشكل حالة غموضٍ في موقف الأمم المتحدة تجاه مسار المرحلة الانتقالية. وهذا ما يشير إلى مشكلات تناسق سياسات الأمم المتحدة والدول الكبرى تجاه تسوية الأزمة السياسية في ليبيا، وفق مخرجات الحوار الوطني .
ويبدو أن تحركات "الناتو" لا تقتصر على المسألة الليبية، لكنها تأتي في سياق حزمة تغيير في السياسات العسكرية والأمنية، تشمل روسيا، والحرب على الإرهاب، وربما تركيا، فبجانب التوسع في برنامج الدرع الصاروخية في شرق أوروبا، تكشف المحاولة الانقلابية في تركيا عن ضعف تناسق سياسات "الناتو" تجاه أعضائه، ليس فقط بسبب دوره في الاضطرابات السياسية في تركيا، ولكن، في تلويح الأميركيين باستبعادها من الحلف، مما يشير إلى جانبٍ كبيرٍ من التناقضات الداخلية في السياسات الدفاعية، فإطلاق العملية الأمنية "الحرس البحري" يقع ضمن سياسات مكافحة الإرهاب، وزيادة القدرات الأطلسية في البحر المتوسط، بالإضافة إلى دمج الحلف في الحرب ضد "داعش" والأزمات التي تشهدها مناطق جنوبي الحلف التي ترتب عليها ارتفاع معدلات اللاجئين، بسبب الحرب وزيادة في الهجمات الإرهابية، وهي سياسات أقرب إلى التصدي لمشكلاتٍ إقليمية، بالإضافة إلى دخول روسيا في الأزمة في سورية.
ووفقاً لكوبلر، ترجع خلفية فرض حظر السلاح إلى أنه ليس هناك جيش يمكن الاعتماد عليه، فالكيانات العسكرية في ليبيا هي مجموعة من القوات النظامية، وموالون للقذافي، ومرتزقة من السودان أو تشاد و بعض القوى القبلية، إضافة إلى "مليشيات " مصراتة، حيث يخلص رئيس البعثة الأممية إلى أن مقومات الجيش غير قائمة، وبالتالي، لا يساهم تسليح "المليشيات" ودعمها بالمال عن طريق مصرف ليبيا في حل الأزمة السياسية، ولا يدعم مسار الحوار الوطني.
وبشكل عام، لا تبدو تصريحات مارتن كوبلر حاسمةً بشأن ترتيبات "الجيش الوطني الليبي"، فعلى الرغم من تصريحاته المتكرّرة عن اضطلاع "المجلس الرئاسي" بمهام القيادة العليا للجيش، تبدو الأمم المتحدة غير متحمسةٍ لتوفير الدعم العسكري لحكومة الوفاق، وفق مسارين: الأول، عن طريق تكوين جيش موحد يكون قادراً على هزيمة تنظيم داعش، ويشمل كل الاتجاهات السياسية والتيارات الفكرية، وتبدو هذه الأفكار غير متناسقةٍ مع خطط أو مسارات بناء الجيش، حيث تتجه إلى بناء جيش متنوع، لكنه سوف يشهد انقسامات سياسية. وهنا، يمكن ملاحظة أن توجه خليفة حفتر إلى تشكيل "الكتيبة السلفية" لا يعكس فقط الرغبة في تجنيد تيار أيديولوجي، وإدخاله في الصراع السياسي. المسار الثاني، عن طريق التدخل المباشر لمكافحة التطرّف والإرهاب، وبينما يتعثر مسار بناء الجيش، يبدو التوجه نحو فرض الحظر على التسلح والرقابة البحرية السياسة المفضلة للأمم المتحدة والدول الكبرى، وهي سياسةٌ تعرقل التفكير في بناء الجيش، وتضعف خطط المسار السياسي.
كما يمكن تفسير تباطؤ تكوين الجيش واستمرار حظر السلاح بتوتر العلاقة بين الأمم المتحدة
وبعض التوجهات الإسلامية والمجموعات المسلحة، لاختلاف منظور الحل السياسي للمشكلات في ليبيا، وقد انعكس هذا التوتر في تصنيف بعض المجموعات المسلحة منظماتٍ إرهابيةً لا تخضع للقانون. وهذا ما يفسر حالة القلق تجاه قبول بعض التشكيلات المسلحة في الجيش، على الرغم من مساهمتها في حفظ الأمن ومكافحة التطرّف والإرهاب، فعلى الرغم من تقدم عملية البنيان المرصوص تجاه "داعش"، تتجه الدول الغربية إلى تشديد الحصار على السواحل الليبية، ليس لعملية قتالية، وإنما لبناء المؤسسات وهياكل الأمن والتخطيط الدفاعي، وهي مساعداتٌ لوجستية، لا تتصدّى مباشرة للتعقيدات السياسية، ويمكن اعتبارها صيغةً لحصار الشواطئ الليبية، انتظاراً لنتائج الصراع المسلح.
كما أن استمرار النزاع على قيادة الجيش يشكّل خلفية استمرار فرض حظر السلاح، فعلى الرغم من تفويض وزراء حكومة الوفاق بمزاولة مهامهم، استند تردّد الدول الغربية في رفع حظر السلاح على الخلاف حول موقع حفتر داخل الجيش، وتصاعد دور المكونات العسكرية في المنطقة الغربية في المشهد العسكري، ولم تستند لمطالب "المجلس الرئاسي" في رفع حظر السلاح، على الرغم من اعتداد الأمم المتحدة بشرعيته.
وقد تعكس مطالب بعض الأطراف الليبية لفتح نقاش حول تقييم أداء المجلس الرئاسي وإعادة النظر في وثيقة "الاتفاق السياسي" حالة من القلق تجاه تعثر المسار الانتقالي، فهذا التوجه يعني تحميل "الرئاسي" المسؤولية السياسية، على الرغم من امتناع مجلس النواب عن إقرار الحكومة، وهو ما يعيد المشكلات السياسية إلى وضعها ما قبل مرحلة الصخيرات"، خصوصاً مع ظهور توجهات تطالب بتعديل "الاتفاق السياسي" وإعادة تشكيل "مجلس الرئاسة"، لكن حوارات تقييم الأداء في اجتماع لجنة الحوار الوطني (تونس 18 يوليو/ تموز 2016) استطاعت تجنب الدخول في أية تعديلات، ولكن، لم يحدث تقدم جوهري في المشكلة السياسية بين "الرئاسي" ومجلس النواب، مما يحول دون تكوين المؤسسات الانتقالية أو تفعيلها. كما أن توسيع الرقابة على الشواطئ الليبية، لتشمل تفعيل حظر السلاح، يفرض قيوداً على حكومة الوفاق في بناء الجيش والأجهزة الأمنية. وهنا، يبدو أن عملية "الحرس البحري" تهدف إلى تحييد نتائج عملية البنيان المرصوص، ووقف المد السياسي لحكومة الوفاق، فالتوجه العام لحلف الناتو لا يقتصر على تعزيز عملية صوفيا الأوروبية، بنقلها إلى المستوى الدولي، لكنها تسعى إلى وقف المسارات المحتملة لبناء الجيش، وفق معادلاتٍ تفرضها نتائج العمليات العسكرية في شرق ليبيا وغربها، مما يعكس قلق الأمم المتحدة من اعتبار "المليشيات" المسلحة النواة للجيش الجديد.
ويمكن القول إن التغير والتناقض الرئيسي، في هذه السياسات، يتمثل في تباطؤ الدعم الدولي لتمكين الحكومة من بسط سيطرتها وملء الفراغ الأمني والعسكري، بسبب التباطؤ في اكتساب حكومة فايز السراج الصلاحيات الكاملة، والخروج من دوائر النزاع والصراع السياسي، فإن توجهات حظر السلاح لا تعني فقط منع الدعم المادي، لكنها تعكس أيضاً عدم استقرار الاعتراف الكامل بها، حكومة شرعية لفترة انتقالية، لكن الأكثر خطورةً هو ما يتعلق بالتعامل الدولي على الأزمة الليبية واحدة من مشكلات إقليمية أخرى. ولذلك، من المتوقع تراجع الاهتمام الدولي بإنجاز تسويةٍ سياسيةٍ في ليبيا.
5DF040BC-1DB4-4A19-BAE0-BB5A6E4C1C83
خيري عمر

استاذ العلوم السياسية في جامعة صقريا، حصل على الدكتوراة والماجستير في العلوم السياسية من جامعة القاهرة، وعمل باحثاً في عدة مراكز بحثية. ونشر مقالات وبحوثاً عديدة عن السياسية في أفريقيا ومصر والشرق الأوسط .