محمّد الطاهر المنصوري... وداعاً

محمّد الطاهر المنصوري... وداعاً

20 اغسطس 2016

الطاهر المنصوري... رؤية جديدة إلى التاريخ الحضاري

+ الخط -
فجأةً، ومن دون استئذان، رحلَ المؤرخ التونسي محمد الطاهر المنصوري (61 عاما) قبل أيام، فعمّ الحزن والاسى وسط معارفهِ من قرائهِ وأصدقائهِ وزملائهِ وطلبتهِ، وكلّ الأسرة الأكاديمية العربية في العلوم الاجتماعية العربية اليوم.. كان المرض الخبيث أقوى منه بكثير، فصرعه وهو في ذروة عطائه الذي استفاد منه الجيل الجديد، وخصوصاً أنّ الرجل حمل رؤية جديدة للتاريخ الحضاري، متأثراً بالمدرسة الفرنسية التي أعلنت عن نفسها في تضاعيف القرن العشرين، وسميّت أعمالها "التاريخ الجديد". وكان الطاهر المنصوري قد أثرى المكتبة العربية والثقافة التاريخية العربية بمزيد من الأعمال، سواء في ترجماته الرائعة، أم تآليفه التي عدّت علامات فارقة ونوعيّة في زمن كسيح ومستلب، وفي كلّ جنباته الثقافية والعلمية العربية، بحيث انهارت كل المعاني والمثل الاخلاقية، وأخذ يكتب "التاريخ" كلّ من هبّ ودب في حياتنا العربية اليوم، وكثر التشويه والتزوير والاستلاب مع غياب المؤرخين المتمرّسين والمهنيين الحقيقيين.
محمد الطاهر المنصوري من جيلنا نفسه الذي عاش النصف الثاني من القرن العشرين بكلّ نضارته وذبوله ، انتصاراته وانكساراته، مراراته وتناقضاته، تموّجاته واضطراباته. ويمثٌل الراحل المنصوري الجيل الثاني من المؤرخين التونسيين الذين درسوا على أيدي مؤسسي الجامعة التونسيّة الاوائل. ولد في مدينة الروحية في ولاية سليانة التونسية سنة 1955، ودفن في ترابها في يوم الجمعة 12 أغسطس/ آب 2016. وكان قد نشأ وتربى فيها، ثم درس على أيدي الجيل السابق من علماء تونس وأكاديمييها المستنيرين، وانخرط بعد أن أكملَ دراساته في العمل الأكاديمي، ليغدو أستاذاً زائراً ومحاضراً قديراً في أكثر من مؤسسة علميّة وبعض الجامعات العربية، إذ تخصّص في تاريخ القرون الوسطى ومجاله الحضاري، وتعمّق جداً في تخصّصٍ قلّ فيه علماء التاريخ العرب هو "التاريخ البيزنطي"، وكان قد بحث بكفاءةٍ عاليةٍ في مجال العلاقات الحضارية الغربية، وخصوصاً الأحقاب الرومانية والبيزنطية، وتناول عن قصد تاريخ المسيحية في منطقة شمال أفريقيا، ولما سمعته، أكثر من مرة، يحلّل تلك العلاقات ويتوّغل في نسيج روابطها، ليستنبط تناقضاتها ويتابع تطوراتها، ويتوقّف عند أدق معلوماتها وتفاصيلها، أكبرت فيه معرفته الجادة، ودقته، ومنهجه، ما يدلّ دلالاتٍ واضحة، كيف تعِبَ الرجل على نفسه في قراءة التاريخ، وتركيزه من خلال قوة ملاحظاته، فضلاً عن سعة مداركه وإحاطته بمصادر قديمة مضنية عديدة. ولعل الجانب الاخر الذي ميّزه عربياً جهوده في ترجمات كتب مهمّة جداً في التاريخ، اهتمّت بمنطقة المتوّسط ، وخصوصاً الكتب المثيرة للانتباه، عن الفرنسية، ما أهلّه ليكون واحداً من أفضل المترجمين العرب في نهايات القرن العشرين.
ويذكر أنّ الفقيد عمل أستاذا في الجامعة التونسية منذ العام 1987، وبرتبة أستاذ منذ
2001، وكان قد تنقّل في التدريس في جامعات مختلفة محاضراً، أو متعاقداً، أو زائراً في السعودية وفرنسا واليونان وقبرص واليابان والمغرب وقطر. وفي الجامعة التونسية، غدا رئيساً لوحدة البحث التي اعتنت بالهجرات والتثاقف في العالم المتوسطي، إذ كان الفقيد قد اهتم اهتماماً بالغاً بتواريخ العلاقات المتوّسطية، في مجالاتها المتنوّعة والمتباينة السياسية والعسكرية والاقتصادية، فضلاً عن عنايته بالتصورات المتقابلة، والإدراكات المتبادلة، والأحداث الموازية من خلال تجربته الملتصقة بـ منهجية "التاريخ الجديد" الفرنسية المعروفة بـ "مدرسة الحوليات".
عندما كنت في تونس أستاذاً زائراً في إنسانيات منوبة والمعهد الأعلى للتوثيق عام 1985 لم التق بالفقيد، إذ كان يكمل دراسته العليا في فرنسا، فقد التحق بمنوبة سنة 1987 إثر حصوله على الدكتوراه من باريس، وقد اختص أيضا في علم النفس التربوي، إضافة إلى دراسته التاريخ الوسيط، كما حدثني، ولكنني التقيت به مراتٍ، فوجدت فيه تواضع العلماء، ودقّة المؤرخ، ورؤية المجدّد، وفكر المستنير، وأخلاقية الإنسان.. وينبغي، هنا، أن أذكر فضله المعنوي عليّ، ففي آخر لقاء لي معه، وخلال جلسات المؤتمر السنوي الثالث للتاريخ في بيروت، والذي عقده المركز العربي للابحاث ودراسة السياسات (22- 24 إبريل/ نيسان 2016)، وكان المؤتمرون يعالجون موضوع "التحقيب التاريخي"، التفت قائلا للمؤتمرين : "لا تنكروا جهود المؤرخ سيّار الجميل في تحقيبه للتاريخ من خلال كتابه عن سلاسل الأجيال، والذي سماه بـ "المجايلة التاريخية"، فشكرته على موقفه الأخلاقي رحمه الله.
ومن أهم أعماله: أطروحته في الفرنسية حول "من الزنار إلى الخمار: قوانين اللباس في تاريخ الإسلام الوسيط"، "العلاقات بين مصر وبيزنطة ما بين القرنين الثالث عشر والخامس عشر"، "الحمامات مدينة متوسطية" (2000)، "قبرص من خلال المصادر العربية" (2001)، "الحياة الدينية في بيزنطة" (2003)، "قاموس المصطلحات البيزنطية" (2003)، "قوانين اللباس في الحضارة العربية" (2007)، "في العلاقات الإسلامية البيزنطية" (2009)، "في علاقة المسلمين بالغرب اللاتيني" (2009). ومما ترجم من كتب من وإلى العربية والفرنسية والإنكليزية، "التاريخ الجديد" (2007)، "التاريخ المفتت" (2009)، "إسكان الغريب" (2013).
ومن خلال تخصصه في مجال التاريخ الوسيط، تعلّم كيف يتعمّق في أزمنةٍ مهمّةٍ من الحضارة
البيزنطية التي امتدّت تداعياتها ومؤثراتها على كامل حوض المتوسط، بما فيها جزره وشواطئه بكلّ أبعادها السياسية والعسكرية والاقتصادية والدينية. واعتنى الرجل بالرؤيّة البيزنطية من داخلها إلى الإسلام، وهو يمتد بفتوحاته العربية ذات اليمين وذات الشمال، وقد اهتم بجناح ذات الشمال، حيث يمتدّ البيزنطيون أمام ذات اليمين حيث يمتّد الساسانيون. وفي مداخلاته العديدة التي شهدتها في أكثر من مناسبة. تمّيز المؤرخ المنصوري بشروحاته التفصيليّة ونقداته المقارنة ورؤيته الجديدة، وكشفه عن معلومات جديدة غاية في الأهميّة في العلاقات الإسلامية البيزنطية، وفي علاقة المسلمين بالغرب اللاتيني. ناهيكم عن تنظيراته التاريخيّة التي أكدّت دقة تلك المعلومات أولاً، وسعة أفقه ثانياً، فضلا عن دعوته إلى أن يتوقف العرب عن كتابة الإيجابيات التي يرضى عنها الناس، من أجل البدء بكتابة التاريخ الحقيقي، حتىّ يتعلّم منه الناس. ولكي لا يقرأوا التاريخ بكلّ جمالياته المصنوعة، ثم يصدمهم الواقع المهترئ.
أما ترجماته عن الفرنسية، فمنها كتاب محمد ياسين الصيد "إسكان الغريب في العالم المتوسّطي" الذي يحلل فيه قضايا العلاقات المتوسّطية، والتوغل في شؤون المؤسسات التي تعنى بالتجار والرحالة والغرباء في الموانئ وأسواق المدن، ذلك النسيج الاجتماعي الذي أحدث حالاتٍ من التلاقي بين الثقافات عبر تلك الأزمنة. وترجمة أخرى له لكتابٍ، جمع بحوثه وقدّمه المؤرخ الفرنسي، جاك لوغوف، وقد ترجمه المنصوري ترجمة دقيقة، ونشر بعنوان "التاريخ الجديد"، وترجم أيضا كتاب "التاريخ المفتّت" للمؤرخ الفرنسي فرانسوا دوس، وهو عمل يؤرّخ لتطوّر العلوم التأريخية في العصر الحديث ودرس تياراتها الكبرى. وقد أكدّ المنصوري في مقدمتيه للكتابين أنّ ثقافتنا العربية التاريخية بحاجة ماسة إليهما، علما أنه قد أكدّ تأثير المدرسة الفرنسية على العلماء المغاربة أكثر بكثير من تأثيرها على العلماء المشارقة الذين تأثروا بمدارس غربية أخرى.
وأخيراً، ليس لنا إلا أن نقف سوياً، كي نودّع الأخ الراحل محمّد الطاهر المنصوري الوداع الأخير، ونقول: سيبقى اسم الراحل علامة فارقة في المعرفة العربية الحديثة.. رحمه الله رحمة واسعة، وأسكنه فسيح جنانه.