عن قبول التطبيع ورفضه

عن قبول التطبيع ورفضه

15 اغسطس 2016

احتجاج في الرباط ضد التطبيع مع إسرائيل (25 مارس/2012/أ.ف.ب)

+ الخط -
هجومٌ كبير في مواقع التواصل الاجتماعي، تلَقَّاه الوفد السعودي الذي زار فلسطين المحتلة، والتقى مسؤولين إسرائيليين، بقيادة اللواء المتقاعد أنور عشقي. أمرٌ إيجابي أن تكون ردة الفعل، في هذه المرحلة تحديداً، شديدةً ضد هذا التطبيع مع الكيان الصهيوني، والوجدان العام في السعودية والخليج، كما في بقية أرجاء الوطن العربي، لا زال يرى في فلسطين قضية أساسية، بغض النظر عن كل التشوّهات التي أريد لها أن تدمّر الوعي بهذه القضية. هذا هو الحد الأدنى من مقاومة اغتيال الذاكرة، بخصوص قضية العرب المركزية. لكن، لا داعي للإفراط في التفاؤل، فهذه الغضبة لن تنفي القدرة على أخذ الرأي العام بعيداً عن بوصلة فلسطين، ولا ضآلة تأثيره فيما يخص السياسات تجاه فلسطين وغيرها، ولا تجييشه صوب أمور أخرى، كما حدث ويحدث، بما يتضادّ حتى مع هذه القضية، أو يفرغها من مضمونها.
ربما وصلت قضية فلسطين إلى أكبر إهمالٍ لها، في أيامنا هذه، بفعل عوامل عدة، منها سخونة الصراعات داخل المجتمعات العربية، وفي الإقليم، وتحول بعض الأنظمة العربية من التخاذل تجاه القضية الفلسطينية إلى الاصطفاف مع المحتل، مع ما يستتبع ذلك من تأثيرٍ على رؤية قطاعاتٍ من الجمهور العربي للقضية، ولعلاقتهم بها (ونذكر هنا مثلاً التجييش في مصر ضد الفلسطينيين وأهل غزة في السنوات الثلاث الأخيرة)، لكن الملفت أن خطاب الواقعية السياسية، الذي تتبناه النخب العربية المؤمنة بخيار "السلام" مع إسرائيل، في هذه المرحلة هو في أضعف أحواله، لأن إسرائيل لم تمنح هؤلاء أية فرصةٍ لتسويق محاججتهم حول السلام، وربما لم يعد أمام بعض هؤلاء سوى القول، صراحةً، إن التطبيع مفيد لمواجهة الخطر الإيراني في المنطقة، من دون أي ذكر لقضية فلسطين، التي سعى هذا الخطاب إلى تصفيتها وإنهاء صداعها بسلام الأوهام.

لم تكن الواقعية السياسية سوى استسلام وإعلان للهزيمة أمام الكيان الصهيوني، ودعوة إلى العمل على تحسين شروط هذه الهزيمة بالتفاهم معه، وهي جزءٌ من تصور الانتصار النهائي للغرب الليبرالي، ووجوب الاندماج في منظومته، وإحدى وسائل هذا الاندماج هي التطبيع مع قاعدته المتقدمة في منطقتنا. نَشِطَ خطاب الواقعية السياسية مع بداية التوجه العربي الرسمي للسلام، من مؤتمر مدريد عام 1991، إلى "أوسلو" وما بعدها، وهو واقعي بمعنى الانهزام الكامل للواقع، وليس التعاطي بواقعيةٍ مع الظروف والعمل على تغييرها، ضمن احترام الذات وتبنيها مجموعة مبادئ وأهداف سياسية، والسعي إلى تحقيقها، فالواقعية هنا هي تحقير للذات وانطلاق من تفوق الآخر المطلق الذي لا يمكن تغييره، وتالياً، الخضوع لتفوقه بشكل نهائي.
أضعف الصلف الإسرائيلي هذه الواقعية، إذ إن العدوان الاسرائيلي الذي لا يتوقف أفشل كل فرص السلام، ومعها حجج الواقعيين العرب، ولا ننسى مشهد رد إرئييل شارون على مبادرة السلام العربية في بيروت عام 2002، وكل ما قبلها وما بعدها من حروب إسرائيليةٍ مجنونة في فلسطين ولبنان، غير اعتداءاتها في دولٍ عربية أخرى، مثل سورية والسودان، كما أحرج خطابَ الواقعية تفوقُ حركات المقاومة بشكل عملي وواضح في معاركها ضد إسرائيل. الغريب أن هذه الواقعية الداعية للتطبيع مع إسرائيل بشعارات القبول بالواقع لا تتعاطى بالطريقة نفسها مع تنظيم داعش مثلاً، فهي تدعو إلى محاربته وإنهاء وجوده، على الرغم من أنه واقعٌ اليوم في منطقتنا، لكن المسألة ليست القبول بأي واقع، بل القبول بواقعٍ يُخضعنا للغرب وإسرائيل، فهذا هو الواقع الذي تجب الاستماتة في محاولة تثبيته، وكل واقعٍ آخر يمكننا العمل على تغييره.
على الجانب الآخر، قد يصدر رفض التطبيع ممن يرون أن وقته لم يحن بعد، لأن "تسويةً عادلةً وشاملةً" لم تنضج، وليس رفضاً لمبدئه، كما قد يصدر من مختلفين حول "درجة التطبيع"، إذ انتقد بعضهم لقاء عشقي بمسؤولين إسرائيليين، لكنه أبدى تسامحاً حيال زيارة الضفة الغربية، والصلاة في المسجد الأقصى، وكأن هذه الزيارات لا تحتاج إلى تصريح إسرائيلي، ولا تتضمن اعترافاً بسلطة الاحتلال.
كذلك، أبدت مجموعة من الأشخاص امتعاضها من الخطوة التطبيعية، لأنها تعطي إيران ومحورها فرصةً للإدانة أو المزايدة، وهو تعبير عن رؤية هؤلاء للصراع ذي الأولوية، والمعركة الأساسية، ونظرتهم للصراع مع إسرائيل بوصفه ورقةً تُستَخدَمُ معهم أو ضدهم في هذا الصراع. لا يكفي أن يقول هؤلاء وغيرهم شعراً في القضية الفلسطينية، فمشكلتهم أنهم يقفون تحت مظلة مشاريع تستخدم التطبيع مرحلياً، لتحقيق أهدافها ضمن الصراع الإقليمي، وتنظر للتطبيع النهائي هدفاً استراتيجياً، وهذا ما يجعل معارضتهم التطبيع تبدو مُربَكَة ومهزوزة، ومشغولة غالباً باستخدام هذه المسألة في الصراع الإقليمي.
رفض التطبيع هو رفضٌ للتلاعب بمركزية فلسطين، وهو أولويتها في تحديد مواقفنا من كل ما يجري حولنا، ومواجهة لاستبدال عداوة إسرائيل بعداواتٍ أخرى، كما هو رفضٌ للتلاعب بذاكرتنا، وإعادة تعريف القضية من كونها قضيتنا "نحن" العرب إلى قضية "أشقائنا" الفلسطينيين، ثم إلى قضية بعض أشقائنا الذين يشاركوننا الرؤية الانهزامية، وصولاً إلى أن تغدو قضيةً لا تعنينا.
ما يوجع حقاً أن إسرائيل ليست في أقوى حالاتها، لكننا أضعف من استثمار ضعفها، في مختلف المجالات.

9BB38423-91E7-4D4C-B7CA-3FB5C668E3C7
بدر الإبراهيم

كاتب سعودي. صدر له كتاب "حديث الممانعة والحرية"، و"الحراك الشيعي في السعودية .. تسييس المذهب ومذهبة السياسة".