بين أمل العودة و"ألم التنازلات" الإسرائيلية

بين أمل العودة و"ألم التنازلات" الإسرائيلية

15 اغسطس 2016

(أنس عوض)

+ الخط -
هل هناك من بين الفلسطينيين من هو على استعداد للتنازل عن حق عودة اللاجئين إلى ديارهم؟ في أي مفاوضات ثنائية أو متعددة الأطراف، تحت إشراف إقليمي أو دولي؟ حتى لو وجد هناك من يقبل بذلك من بين المتفاوضين الفلسطينيين، إلا أن الأغلبية الفلسطينية لا تقبل بذلك مطلقاً، حتى لو كان الثمن دولة مستقلة بدون سيادة، أو افتراضياً حتى بسيادة كاملة في حدود 1967، أو أقل من ذلك بكثير، أي في حدود الـ 22% التي يتحدّثون عنها، وبالتأكيد أقل من ذلك في حال ضم المستوطنات والكتل الكبرى والقدس إلى إسرائيل.
وفي مطلق الأحوال، لن تقبل الحكومات الإسرائيلية الانزياح عن استراتيجيات سياساتها التي باتت أكثر من معلومة، وهي التي ما تني تحدّدها على حساب الأرض والشعب والممتلكات الفلسطينية، إضافة إلى ما بدأ يتبلور أخيراً، من ترسيخ لعلاقات ثنائية إقليمية، تقوم على المصالح "المشتركة" الاقتصادية والتجارية، من قبيل العلاقات مع الدول الأفريقية التي توجت في أعقاب زيارة رئيس الوزراء الإسرائيلي، بنيامين نتنياهو، عدداً منها أخيراً، في تجاوز واضح للقضية الفلسطينية، ولأي شكل من المفاوضات، وتجاهلاً لضرورة التوصل إلى تسويةٍ ممكنة، لم تعد ممكنةً بفعل المواقف الإسرائيلية المتطرفة، والتهافت الفلسطيني والعربي على بدء مفاوضات ولو شكلية، من دون أفق أو آمال تعلق عليها.

عبر عن المواقف الإسرائيلية المستجدة، أخيراً، نتنياهو، في خطاب له في الكنيست، حين دعا إلى نوع من المقايضة المجحفة والظالمة، بقوله: "لن أكون كريماً لكي يحصل الفلسطينيون على دولة في حدود 67 ومن ثم لا يعطوننا شيئا"، مضيفاً "أنه على استعدادٍ لإنهاء الصراع مع الفلسطينيين، في حال وجود شريك يتنازل عن حق العودة"! وشدّد نتنياهو على أن الأرض، من غربي نهر الأردن حتي البحر، ستكون تحت السيطرة "الإسرائيلية"، وقال: "الآن، هناك دول تنهار ودول على عتبة الانهيار، وفي حال أخرجنا الجيش الإسرائيلي وجهاز الشاباك من الضفة الغربية، فأول ما سيحدث انهيار السلطة الفلسطينية، كما حدث الأمر بعد الانسحاب من قطاع غزة عام 2005".
قد يكون في هذا الكلام بعض الصحة، لكن الأصح أن نيات نتنياهو، وحكومته وكيانه عموما، لا تؤشر إلى إمكانية الانسحاب من أراضٍ فلسطينية في الضفة الغربية، بل يراد للجيش الإسرائيلي أن يبقى حارسا لكامل الحدود الفلسطينية، مع كامل الحدود العربية التي تحيط بها، من لبنان إلى الأردن إلى سورية إلى البحر المتوسط، وصولاً إلى الحدود المصرية مع قطاع غزة، منعا لإقامة كيان فلسطيني مستقل، فكيف يمكن الموافقة على دولةٍ فلسطينيةٍ مستقلة، كما تتوارد في الذهن الفلسطيني الحالم أو الواهم؟ وكيف يمكن أن يتحقق أمل حق العودة بالفعل؟ لا سيما وأن حكومة متطرفين، في كيان عنصري كولونيالي استيطاني، لا تجد نفسها مضطرةً لعمل أو لاتخاذ إجراءات أو قرارات، لا يجبرها عليها أحد، في وضع إقليمي ودولي مضطرب، لم يعد يمنح القضية الوطنية الفلسطينية أدنى اهتمام؛ وحتى بعض أصحابها باتوا "ينامون" على حرير مصالحهم الأنانية والزبائنية، من دون الحاجة لمزيد من طرائق الكفاح التحرّري الذي بات ذكرى من الماضي المجيد.
في مقلب آخر من المواقف الإسرائيلية، يبدو أن الاستفتاء البريطاني على الانسحاب من الاتحاد الأوروبي بنتائجه، قد راق لبعضهم ممن لا يقرّون على قرار، أو لا يستطيعون تطبيقه، جراء تعقيدات سياسية عقائدية وعقدية تعصبية في الداخل وفي الخارج، ومن هؤلاء ما يسمى "اليسار" الإسرائيلي، حيث ذكرت صحيفة معاريف، يوم 27/6/2016، أن "مبادرة سياسية بدأ الإعداد لها في معسكر اليسار الإسرائيلي، تتلخص في إجراء استفتاء إسرائيلي على مستقبل المناطق الفلسطينية".
وأوضحت الصحيفة أن حزب المعسكر الصهيوني وحركة السلام الآن يعتزمان الخروج بحملة كبيرة لإجراء استفتاء في أوساط الجمهور الإسرائيلي، لمعرفة مدى دعمه "حل الدولتين" مع الفلسطينيين، أو القيام بعملية ضم للضفة الغربية المحتلة إلى إسرائيل. ونقلت عن عضو الكنيست عن المعسكر الصهيوني، إيتان بروش، قوله إن إسرائيل تمر بلحظات مصيرية، فالوقت قصير، ومعظم الجمهور الإسرائيلي يريد التوصل مع الفلسطينيين إلى حلٍّ دائم يوفر له الأمن المفقود، "لأن حل الدولتين ليس سهلا، ويتطلب من الإسرائيليين تنازلاتٍ مؤلمةً في الضفة الغربية، وهو ما يتطلب إشراك الجمهور الإسرائيلي في مثل هذا الحل المصيري".
أي ألمٍ يمكن أن تسببه التنازلات الإسرائيلية للإسرائيليين؟ ومن الذي يمكن أن يفرح بها؟ وأي فرح يمكن أن تسببه التنازلات الفلسطينية للإسرائيليين؟ وهم يربحون مزيداً من الأرض الفلسطينية، مهما تكن نتيجة المفاوضات، فكل تنازل فلسطيني هو خسارة للفلسطينيين، ويشكل ربحاً صافيا للإسرائيليين.
حتى ما يسمى "تبادل أراض" لا يختلف عن خسارة الفلسطينيين، والربح الصافي إياه للإسرائيليين. ولماذا تسمى التنازلات الإسرائيلية مؤلمة، وفي حال الفلسطينيين غير ذلك، ما دامت تجلب الفرح والمسرّة للإسرائيليين. ولماذا على الفلسطيني أن يقدم دائماً مزيداً من أرضه وممتلكاته قرباناً لسلام موهوم، لم يحل منذ قرار التقسيم وإقامة "الدولة الصهيونية" وتجاهل وإقصاء مسألة إقامة "الدولة الفلسطينية"، واستمر هذا الواقع حتى حرب 1967، ليواصل واقع الاحتلال فرض خط التنازلات على الفلسطينيين، والربح الصافي للإسرائيليين، بعد ذلك بما يقارب الخمسين عاما أخرى.
أي تنازلات هي المؤلمة؟ ومن الذي يتألم في واقع احتلال كولونيالي، لم يوفر الأرض وما فوقها وما تحتها، ولم يبق لإسرائيلييه إلا أن يرفعوا من أسهم ضم الضفة الغربية، ورفض "حل الدولتين"، الأمر الذي يتوافق مع اتجاهات وتوجهات معظم الإسرائيليين المستوطنين، وغير المستوطنين وحكومتهم اليمينية المتطرفة؟
لماذا الاستفتاء إذن، إذا كانت النتيجة ستكون محسومة، ولم لا تتجه الحكومة الإسرائيلية إلى طاولة المفاوضات، إذا كان في نيتها تطبيق "حل الدولتين"؟ أم إنها، وتحت زعم احترام خيارات الإسرائيليين، تريد ضم الضفة الغربية باعتبارها مناطق محتلة، على الرغم من تعارض ذلك مع القوانين الدولية، ومتى خضعت حكومات الاحتلال للشرعية الدولية، وهي الأشهر في تحدّيها بدعم حماتها الغربيين، وتواطؤ قوى إقليمية وعربية وعجزها، وهي التي لا يبدو أن في مقدورها تحريك أي ساكن منذ زمن بعيد.

من الذي يتألم الآن، ومنذ احتلالين ونكبتين، بل أكثر؟ أم إن الألم يمكن قياسه بعنصريةٍ أيضاً. يتألم الإسرائيلي لأنه يريد أن يقدم على تنازلاتٍ عن أرضٍ وممتلكاتٍ ليست له أصلا، بل أقدم على سرقتها يوماً حتى صارت البلاد كلها (فلسطين التاريخية) ملك "أيمانه"، وتحت سيطرته وهيمنة كيانه الاحتلالي.
أما الفلسطيني فيراد له التنازل عن بلاده كلها "كوطن كان يوماً وطنه"، وعن هويته وهوية تلك البلاد، بدون ألم الفقدان والخسران والحنين والانتماء إلى وطن الأجداد الذين ولدوا وعاشوا واستقروا، ولم يأتوا عابرين ليستقروا بعد سطوهم وسرقتهم إرث الآخرين وتراثهم، ونسبته إلى هؤلاء العابرين. أي ألمٍ هذا لا يحتمل؟
وبعد ذلك، يريدون لنا أن نستمر في التحسّر ومعاناة آلامٍ لا تحصى، مع أننا لسنا من ارتكب فعل الهولوكست، أو أيدها، أو تواطأ مع النازيين لإقامتها، ومع أننا ما لبثنا ضحايا النكبات، الأولى والثانية والثالثة، في حين لم تزل النكبات في حقنا تتوالى من دون توقف، ومن دون رادع. لماذا كل هذا الألم في حق شعب البلاد المحتلة: من هم في فلسطين الداخل، ومن هم في الداخل الفلسطيني، ومن هم في داخل الداخل، ومن شرّد من كل الدواخل إلى الشتات، ليتحوّلوا إلى أشتاتٍ في الشتات؟ ومن أين من هنا إلاّ.. إلى حيث يستمر الألم يحيق بالوطن والأرض والإنسان؟
بين حلم التنازل عن حق العودة و"ألم التنازلات" الإسرائيلية، يبقى الألم الفلسطيني العنوان الأبرز والأصدق لروح الكفاح التحرّري، انعكاساً مباشراً لفلسطينية الأرض والشعب، وقدسية الحق بالعودة إلى وطن الآباء والأجداد الذين صنعوا، بدمائهم وعرقهم وجهدهم وكدهم، تاريخية الأرض وأبجديتها، وهوية شعب ولد وتوالد وأقام على تلك الأرض، منذ فجر التاريخ.

47584A08-581B-42EA-A993-63CB54048E47
ماجد الشيخ

كاتب وصحفي فلسطيني مقيم في لبنان. مواليد 1954. عمل في الصحافة الكويتية منذ منتصف السبعينات إلى 1986، أقام في قبرص، وعمل مراسلا لصحف عربية. ينشر مقالاته ودراساته في عدة صحف لبنانية وعربية.