الانقلابات... من أوجه عدة

الانقلابات... من أوجه عدة

14 اغسطس 2016
+ الخط -
شهدت منطقتنا العربية والدول المحيطة بها في تاريخها الحديث تغييرات سياسية كثيرة في الحكم، وكانت معظمها عبر انقلاب عسكري، نتيجة نقل الصراع السياسي بين القوى الحزبية آنذاك من صراعٍ على قوة التمثيل الشعبي إلى صراع داخل المؤسسات الأمنية والعسكرية القائمة، ولم تشهد دولنا حالة استقرار سياسي (مبني على الاستبداد) إلا بتحقيق الانقلاب العسكري الشامل على كل من الدولة والحياة السياسية قبله، إذ يعد كل من انقلاب حافظ الأسد وجمال عبد الناصر على السلطة في سورية ومصر أبرز الانقلابات العسكرية في التاريخ العربي المعاصر، كونهما أحكما السيطرة وحافظا على مقاليد الحكم بأيديهما حتى وفاتهما، وها نحن اليوم في خضم مرحلة ثورية شعبية، سوف تغير الكثير من واقع المنطقة ومستقبلها، على الرغم من معاناتها، حتى اللحظة الراهنة، من التخبط وعدم الاستقرار، كونها ما زالت تبحث عن هويتها، بالإضافة إلى القوى القادرة على تمثيلها. وعلى وقع الحراك الثوري الشعبي، بدأنا نشهد مرحلة جديدة من الانقلابات العسكرية، وقد نجح أحدها بتبوّؤ الحكم، وفشل آخر، فيما نتوقع معاصرة انقلابات أخرى بملامح مختلفة.
ولعل أبرز تلك الانقلابات هو الانقلاب على الثورة المصرية، فقد ثارت جماهير مصرية في 30 يونيو 2013، معبّرة عن رفضها سلوكيات "الإخوان المسلمين" وسياساتهم الاقتصادية والمجتمعية والسياسية، والتي شكلت امتداداً لسياسات نظام حسني مبارك البائد في حينه، من خلال تضييق الخناق الاقتصادي على المفقرين والبسطاء من أبناء الشعب المصري، وهو ما ظهر في ارتفاع معدلات البطالة والفقر، والاستمرار بعلاقات التطبيع مع الكيان الصهيوني، والتغييرات العديدة والمتتابعة في المواقع القيادية داخل الدولة المصرية، سواء الرسمية أو الاجتماعية، مثل رؤساء المحافظات، ومحاولة هيكلتها بما يتوافق مع إدامة السيطرة الإخوانية على المجتمع والدولة، وأخيراً استمرار عمليات القمع وكم الأفواه والتهميش بحق القوى والمنظمات والأحزاب المشاركة في الثورة المصرية الأولى، بينما كان المجلس العسكري يعدّ العدة لإجهاض الحراك الثوري، من خلال الصعود على ظهر الثورة، مستفيداً من رصيده في مخيلات المحتجين المصريين على خلفية الثورة المصرية الأولى من جهة، بالإضافة إلى استثماره تعنت الرئيس المصري حينها، محمد مرسي، وجميع أعضاء القيادات الإخوانية إزاء الاحتجاجات الشعبية، والتي حملت، في طياتها، التهديد بدفع الأوضاع نحو المواجهة المباشرة مع جموع المحتجين، متجاهلين شرعية الشارع المصري. في المحصلة، أعلن المجلس العسكري تأييده المطلق لجحافل المحتجين والمعتصمين من جهة، وتهديده المباشر الرئيس المصري آنذاك، محمد مرسي، بالتدخل العسكري في حال استمراره في التعنت ورفض التسليم للإرادة الشعبية، وهو ما مهّد الطريق لنجاح الانقلاب العسكري على الاحتجاجات الشعبية، في ظل الغياب الواضح للقوى الثورية المنظمة عن ساحات الاحتجاجات المصرية، وافتقار الشعب العربي عموماً إلى الحد الأدنى من الوعي والممارسة السياسية التي تساعده في الكشف عن بواطن الأمور، من دون الانجرار وراء ادعاءات بعض الأطراف الدولية، أو المحلية، بدعم الإرادة الشعبية.
وعلى النقيض من الحالة المصرية، فشلت محاولة الانقلاب العسكري التركي، نتيجة الوعي
السياسي لشريحة عريضة من أبناء الشعب التركي، سواء الذين يناصرون حزب العدالة والتنمية، أو نظراءهم من معارضيه، إذ شكل هذا الوعي اللبنة الأولى لإفشال الانقلاب، استناداً للهبة الجماهيرية الرافضة للانقلاب، والتي أعلنت دعمها الحرية والديمقراطية التركية، بغض النظر عن الخلافات السياسية بين الأحزاب والقوى المعبرة عن أطياف الشارع التركي، كما شكّل خطاب معظم ممثلي السلطة التركية، وخصوصاً الرئيس ورئيس الوزراء التركيين، رجب طيب أردوغان وبنعلي يلدريم، العامل الثاني في إفشال الانقلاب، نتيجة توجههم إلى عموم أبناء الشعب التركي، فلم يكن الخطاب الرسمي حزبياً بل وطنياً، مطالبين إياهم بضرورة الدفاع عن مكتسباتهم الوطنية والسياسية من جهة. ومن جهةٍ أخرى، اعتمدوا على الشفافية الإعلامية والوضوح في نقل الحدث وخطورته على مستقبل الوطن. وأخيراً وليس آخراً، دفاع شرائح عريضة من المؤسسات الأمنية والعسكرية التركية عن الشرعية الشعبية والسياسية التركية، مستندين إلى الحراك الشعبي التركي والخطاب الوطني للمسؤولين الأتراك، ليشكل تضافر هذه العوامل جبهة قوية وعصية على الانقلاب العسكري.
غير أن فشل الانقلاب العسكري لا ينهي المخاوف والأخطار من نجاح انقلاب سياسي على الحياة الديمقراطية والمدنية التركية، بقيادة حزب العدالة والتنمية الممثل بزعيمه الروحي والفعلي أردوغان، عبر استغلال التفويض الشعبي والسياسي له، على خلفية محاولة الانقلاب الفاشلة الأخيرة، وهي مخاوف مرتكزة على سياسات "العدالة والتنمية" وممارساته قبل واقعة الانقلاب، والمتمثلة في تضييق الخناق على الأحزاب والمؤسسات الإعلامية التركية المعارضة لسياساته، فضلاً عن حملة الاعتقالات والملاحقات العريضة بعد الانقلاب، والتي تتجاوز البيئة المنفذة للانقلاب، لتطاول مواطنين وموظفين حكوميين مؤيدين للانقلاب أو للكيان الموازي، كما يطيب للرئيس التركي وصفه، والتي تتم في غياب شبه مطلق للنقد أو التدقيق القضائي والإعلامي، ما يزيد المخاوف من أن تتجاوز غرض محاسبة المعدين والمنفذين للانقلاب، لتطاول ضرب جزء مهم من الحياة السياسية التركية.
يتطلب الانتقال إلى الحياة المدنية والديمقراطية أو الدفاع عنها تضافر عوامل عدة، في مقدمتها المشاركة الشعبية الفاعلة في السياسة الداخلية، وبناء الوعي السياسي الشعبي المستند إلى الممارسة السياسية، اللذين يمكنان جميع أطياف الشعب من تحديد أهدافهم وغاياتهم أولاً، ومن ثم القدرة على محاكمة القوى الفاعلة انطلاقاً من تمثيلها هذه الأهداف، كما يتطلب الإيمان بالقدرات الشعبية وحدها لتحقيق هذا الانتقال.
75812723-2689-4553-B56D-72CE271905DB
حيّان جابر
كاتب فلسطيني، مشارك في إعداد ملحق فلسطين.