اللهو الخفي في مصر

اللهو الخفي في مصر

07 يوليو 2016
+ الخط -
حاولت مجلة روز اليوسف الحكومية المصرية تغطية حادث غرق عشرات المصريين في نهر النيل، كانوا على متن أحد المراكب، قبل أشهر، فقدمت عنواناً كوميدياً، "قطار مبارك وتلاميذ مرسي ومركب الوراق". نسبت المجلة كل حادث سابق للرئيس الذي كان يحكم البلاد في أثناء حدوثه، إلا حادث مركب الوراق، لأنه كان في يوليو/ تموز من العام الماضي، وبالتالي، لا يصحّ ذكر "اللهو الخفي" الذي يحكم البلاد منذ ذلك الوقت. ولذلك، اكتفت بنسبة الحادث إلى المنطقة التي شهدته.
لمصطلح "اللهو الخفي" تاريخ عريق لدى الأنظمة الدكتاتورية، فهي تتهم دائماً أطرافاً مجهولة، تطلق عليها أحياناً "الطرف الثالث"، بالمسؤولية عن أي جرائم ترتكبها سلطاتها، ليجد نظام السيسي في تلك الاستراتيجية فرصةً لاستخدامها بكثافة للتغطية على فشله الذريع.
اتبعت الأذرع الإعلامية ذلك المنهج في تغطيتها، للطعن الذي تنظره المحكمة الإدارية العليا، والذي يطالب ببطلان حكم محكمة القضاء الإدارية بمصرية جزيرتي تيران وصنافير، وبطلان اتفاقية ترسيم الحدود مع السعودية. إذ ذكرت الأذرع أن "الحكومة" هي التي تقدّمت بالطعن، بينما تخبرنا مذكرة الطعن الرسمية بأن عبد الفتاح السيسي شخصياً هو من تقدّم بالطعن بصفته، إضافة إلى رئيس حكومته ووزيري الدفاع والداخلية، وكذلك رئيس مجلس النواب الذي من المفترض أن يناقش الاتفاقية (!). أي أننا أمام طعن "نظامٍ" بأكمله، بمن فيهم رأس هذا النظام الذي ترتعب الأذرع من مجرد ذكر اسمه.
فور الإعلان عن الاتفاقية، حاولت بعض الأذرع التخفيف من وقع الصدمة، بالهجوم على رئيس الوزراء، وتحميله مسؤولية توقيع الاتفاقية، وكأن شريف إسماعيل يملك من أمره شيئاً، أو أنه يجرؤ على توقيع الاتفاقية بمفرده، ومن دون رغبة من السيسي، بل وصل بعضهم في انتقاده إلى مجرد الهجوم على "الفريق الفني" الذي عمل على ملف الاتفاقية، ليأتي هذا الطعن ويؤكد أن اللعب أصبح "على المكشوف".
حاول الكاتب الصحافي عبد الحليم قنديل تجميل وجه السيسي، بالحديث عن موافقة الأخير على تشكيل لجنة لدراسة وثائق الجزيرتين، وهو حديث يدين السيسي بطريقة غير مباشرة، لأنه يكشف عن توقيعه الاتفاقية من دون دراسة، وتنازل عن "تيران" و"صنافير"، من دون أن يهمه إن كانتا مصريتين أو سعوديتين! وطبعاً، لا حاجة بنا إلى التساؤل عن هذه اللجنة الوهمية التي لم توجد إلا في ذهن قنديل، ولم يتحدث عنها أحد غيره، وكأنها أصبحت "لهوا خفيا" آخر.
اتبع قنديل نظرية "اللهو الخفي"، عندما وصف إعادة افتتاح السفارة الإسرائيلية في القاهرة بأنها "خطوة قبيحة معادية للشعب المصري"، لكنه لم يذكر حرفاً عن السيسي ومسؤوليته عن الأمر، وكأن أحداً غيره قد اتخذ هذه "الخطوة القبيحة"، على حد تعبيره.
قبل تلك الكوارث، ارتكب السيسي كارثة أخرى لا تقل فداحة، عندما وقّع، بمفرده وبصورة
مفاجئة، اتفاقية غامضة مع السودان وإثيوبيا، عرفت بـ"إعلان المبادئ"، والذي أكد العضو المستقيل من اللجنة الدولية لسد النهضة الإثيوبى، الدكتور أحمد المفتي، أنه لا يعطي مصر قطرة مياه واحدة. ومع ذلك، حرصت الأذرع الإعلامية على تسويقه، في البداية، باعتباره إنجازاً كبيراً، وخرجت صحيفة اليوم السابع وقتها بعنوان "السيسي حلها". وعندما ظهرت المشكلات بعد ذلك، وتعثرت المفاوضات بين مصر وإثيوبيا، خرجت الصحيفة نفسها بعنوان "إثيوبيا تخدعنا"، بتوزيع المسؤولية على الجميع، وتجهيل المسؤول عن أي إخفاق، على الرغم من إشارتها السابقة إلى دور السيسي في الاتفاق الأول.
وفي حالة إبداء أي تذمر، أو معارضة لسير الأمور بخصوص سد النهضة، فيقتصر انتقاد الأذرع على وزير الري أو وزير الخارجية أو رئيس الوزراء، من دون المساس بالسيسي. فبعد توقيع اتفاق إعلان المبادئ مباشرة، توجه الكاتب الصحافي سليمان جودة بأسئلة حول تلك الاتفاقية التي أكد أنها لا تحتوي على "حرف واحد" يضمن حقوق مصر التاريخية في مياه النيل. لكن الملاحظ أنه توجه بهذه الأسئلة إلى وزير الري، حسام المغازي، وليس إلى السيسي الذي وقّع على الاتفاقية بنفسه. ولم تجد أذرع أخرى سوى وزير الري لمهاجمته، مراتٍ، على سير المفاوضات مع إثيوبيا بخصوص سد النهضة وتحميله المسؤولية. ولم يخل الأمر من صفاقةٍ معتادةٍ لدى الأذرع، وصلت إلى درجة تحميل محمد مرسي، المختطف والمسجون منذ ثلاث سنوات، المسؤولية عن الكارثة التي ارتكبها السيسي.
لا شك أن هذه التوجهات متسقة تماماً مع رؤية السيسي نفسه الذي لا يعترف بمسؤوليته عن أي فشل، ويُكثر من ترديد خزعبلاتٍ من نوعية اتهام مواقع التواصل الاجتماعي و"أهل الشر" بأنهم السبب وراء أي مصيبة تلحق بالمصريين. وبالطبع، لا ننسى "الإخوان المسلمين" الشماعة الجاهزة لكل شيء، والذين اتهمهم أحد الأطباء الذين يقدّمون أنفسهم باعتبارهم من رواد التنوير بأنهم السبب وراء فضيحة تسريبات الثانوية العامة.
أما عن الفشل في الأمور الأخرى، وما أكثرها، فيصبح الاتهام دائماً لمن هم أدنى، بالحديث عن فشلهم، أو تضليلهم السيسي "الطيب" الذي تعرّض للخديعة من معاونيه، أو حتى اتهام الشعب، كما زعم أحد الأطباء النفسيين، عندما قال إن الشعب المصري "لم تتكوّن لديه ديمقراطية". وتفرد أحد الأذرع بالهجوم على منتقدي ظاهرة "الاختفاء القسري"، لأنهم عرفوا الناس أن هناك تلك الظاهرة، لكنه لم ينتقد الظاهرة الأصلية، أو من يختطف الشباب ويخفيهم (!).
الخبر السعيد أن المصريين لم تعد تنطلي عليهم تلك الألاعيب السخيفة، وأصبحوا يوجهون الاتهام إلى السيسي مباشرةً، ويعتبرونه المسؤول الأول والأخير عن المأساة التي يعيشونها في المجالات كافة. فوجدنا أصحاب المحلات المحترقة في منطقة الغورية في حي الأزهر وسط القاهرة يهتفون "ارحل يا سيسي". وهتف الصحافيون بعد اقتحام نقابتهم من وزارة الداخلية، متهمين الرئاسة مباشرة، ومشترطين تقديمها اعتذاراً عما حدث، على الرغم من محاولة صحافيين آخرين تمييع الأمر عبر الاقتصار على اتهام وزير الداخلية فقط، والادعاء بأنهم تحركوا بمعزل عن السيسي لإحراجه، وفقاً لنظرية "اللهو الخفي". وكذلك أولياء أمور طلاب الثانوية العامة الذين خرجوا يتظاهرون، بعد قرار وزارة التعليم إلغاء الامتحانات، نتيجة فضائح تسريب الامتحانات، وصرخت والدة إحدى الطالبات، موجهة رسالةً للسيسي قائلة "مستحملين جوع وقرف وغلاء، لكن أولادنا لا".
كان المجلس العسكري بعد خلع حسني مبارك دائماً ما يتهم "الطرف الثالث" بأنهم السبب وراء قتل المتظاهرين في أحداث الثورة، أو المجازر التي تلتها، حتى كشف مرسي أن "أفراداً من جهة سيادية كان يرأسها السيسي" هم المسؤولون الرئيسيون عن قتل المتظاهرين. ويبدو أن السيسي مصمم على لعب دور "الطرف الثالث" و"اللهو الخفي" نفسه منذ ذلك الوقت.
D90F1793-D016-4B7E-BED2-DFF867B73856
أسامة الرشيدي

صحفي وكاتب مصري، شارك في إنجاز أفلام وحلقات وثائقية عن قضايا مصرية وعربية، وكتب دراسات ومقالات نشرت في مجلات ومواقع إلكترونية.