"الثوابت القيادية" الفلسطينية بديلاً للثوابت الوطنية

"الثوابت القيادية" الفلسطينية بديلاً للثوابت الوطنية

05 يوليو 2016
+ الخط -
لم يعد العجز السياسي لمكوّنٍ، أو بعض مكونات النظام السياسي الفلسطيني، قادراً على إخفاء عجزه عن الإقلاع أو التغطية عليه، واقتلاع أشواكه بيديه، بقدر ما عكست أزماته ومآزقه الراهنة في العقدين الأخيرين طبيعة تلك الأزمات والمآزق المستعصية، غير العابرة، نظراً لذاك "الستاتيك الفردي" الفئوي من جهة، و"الجماعاتي" من جهة أخرى، وهو ينعش، بين حين وآخر ودائماً، أوهامه في شأن المفاوضات و"حل الدولتين"، في جزءٍ من الوطن، وأوهام "الدولة المؤقتة" في جزءٍ آخر من الوطن، ليعيد ويتبنى تكراره الدائم للسياسات نفسها، وردود الأفعال والانفعالات نفسها، في معزلٍ عن التفاعلات التي يتوخّى أيّ نظامٍ سياسيٍّ أن يقود سلوكه في اتجاهها، كونه نتاج مجموعةٍ من الظروف والمعطيات الخاصة بنشوئه وتكونه.
وإذا كان النظام السياسي الفلسطيني "يتباهى" بأنه الشبيه أو المثيل للنظام السياسي في الفضاء العربي، فلأنه العارف معرفةً جيدة بما أحاط بنشأته، وبما يحيط بظروفه القاهرة التي قادته إلى النرجسية، نتاجاً للعجز المزمن عن إثبات كفاءته وجدارته للخروج من شباك الأزمات المستفحلة، التي راكمت نوعاً من الفئوية وتقديس الفصائلية، وخروجاً عن أطر الوحدة الوطنية أو الجبهوية والتشاركية في العمل الوطني، وكأن "القيادة"، في نظر أصحابها، منزع أو مغنم "أبدي"، لا يخضغ للحساب والمراقبة والمراجعة والنقد، والتفكير والتدبير، والوقوع في الخطأ أو حتى الخطايا، إلا إذا اعتبرت القيادة نفسها، واعتبرتها "قوى السلطة العميقة"، ملهمة ومقدّسةً ومعصومةً عن الخطأ والخطايا.
لقد بات "الستاتيك القيادي" لدى الحركة الوطنية الفلسطينية من "الثوابت" التي عملت واشتغلت عبره للبقاء على حافة الجمود، بل وأطاحت كامل الهالة التي اكتسبتها الحركة الوطنية، في سنوات النضال والغضب والكفاح المتنوع والمتعدد الأشكال، تلك "الثوابت القيادية" ما كان لها، وهي تميّع الثوابت الوطنية وتغيّرها وتحوّلها وتحوّرها، وتقلل من قيمتها، في نظر أصحابها (شعبها ومجتمعها) وفي نظر العالم، إلا أن أحالت نفسها وجعلت منها بديلاً لتلك؛ فكانت "الثوابت القيادية" بديلاً للثوابت الوطنية، وهذا هو المأزق الراهن الذي بات يتردّى فيه الوضع الوطني الفلسطيني، وهو يواجه عديداً من جبهات الكفاح اليومي، ليس في مواجهة الاستيطان والاحتلال الإسرائيلي وعصابات الإرهاب الفاشي فحسب، بل وفي مواجهة تحولات الواقع الوطني، وما ينبغي القيام به للتخفيف من آثار الانقسام السياسي والجغرافي ونتائجه، في ظل هذا التصميم على "الستاتيك القيادي"، وانحراف المهمات السياسية انعكاساً لأوضاعٍ تنظيميةٍ مهلهلةٍ ومخترقة، وأوضاع جماهيرية أكثر تهلهلاً، غادرها التماسك والوحدة المجتمعية، بعد سنوات من احتلال المجتمع من داخله، والعمل على تفتيته وإخضاعه لسياساتٍ رغبويةٍ ودعويةٍ وأمنيةٍ وتنسيقيةٍ وبوليسيةٍ، لا تختلف عن تلك المهام السائدة والقائمة لدى النظام السلطوي العربي.

للأسف، هناك خلل فادح في موازين القوى، ليس هو وحده من وما يقود الوضع الوطني الفلسطيني إلى مزيدٍ من التراجعات، وخسارة المواقع الوطنية المتقدمة في مواجهة الاحتلال في الوطن، وفي كسب المؤسسات الدولية في الخارج، وآخر "النوادر والحكايات الجحوية" وصول إسرائيل إلى رئاسة اللجنة القانونية في الأمم المتحدة، وقبلها فتح مكتب لها في مقر حلف الناتو في مايو/ أيار الماضي؛ في "عمليةٍ انقلابية" أخرى ضد الشرعية الكفاحية الفلسطينية التي باتت الجرأة على انتهاكها والتقليل من علو حائطها، والقفز عليه، والوقوف ضدها أكثر من فاضحة، بدءاً من الانقلاب الأول الذي يزعم بعض أصحابه أنه "حمى الشرعية"، ولا ندري أي شرعية؟ إلا إذا كانت شرعيتهم هم من دون غيرهم، وصولاً إلى مجموعة الانقلابات التي تحيط بنا على الصعد الإقليمية والدولية، من دون أن تتأثر قوى "الستاتيك القيادي"، وكأنها تعيش أحسن حالاتها في وادٍ يعجّ بالزرع، فيما هي، وقضية شعبها، باتت تعوم على بحر من الخسارات المتناسلة.
وطالما جرى ويجري الإقرار بعدم وجود تلك الفوارق العميقة التي تفصل بين الثقافات، كونها مجموع القيم التي تقوم عليها المجتمعات والدول المدنية الحديثة. وهذا بالطبع من دون أن يلجأ بعضهم إلى الإقرار بإلغاء مبادئ المساواة، فمن الطبيعي أن يقوم "احتلال المجتمعات" لدى الأنظمة السلطوية، على اختلافها، مقام إلغاء الإرادات الحية، واحتلالها كأي قوة احتلالٍ خارجية، ولا يختلف هذا الكلام لدينا، أو لدى أي مجتمع، حيث تتساوى المجتمعات تحت الاحتلال أو المجتمعات المتحرّرة منه. ولكن، يبقى هناك بعض سمات مشتركة بين تلك المجتمعات الخاضعة لحكوماتٍ وأنظمةٍ سلطوية، تتشارك في الاستبداد والديكتاتورية والشمولية، وتلك الواقعة تحت الاحتلال الأجنبي.
من هنا، يشكل احتكار السلطة والاستئثار بها، وفرض الرؤى السلطوية على مجتمعاتٍ وتجمعاتٍ وقعت تحت الاحتلال، مصادرة مزدوجة؛ مضافة ومضاعفة، تجعل من التحرّر الوطني مسألة هامشية، وربما غير ملحة!، وتحول الأقسام والفئات النافذة من الحركة الوطنية إلى نوعٍ من مركبات "العصبية الجديدة"، كعنصرٍ يقاسم الاحتلال موضوع الهيمنة والمصالح، فيما التطلعات تبقى أسيرة الناس العاديين، ممن لم تلوّثهم السلطة، أو لم تتقاطع مصالحهم مع مصالح الفئات النخبوية "الحاكمة".
كذلك يشكّل الفساد الوجه الآخر لعملة الاستبداد السلطوي، واستمرار الاستئثار بمهام قيادية، من دون انتخاباتٍ عامة من الشعب في الداخل، بل بفضل دعمٍ دوليٍّ بات يتجاسر أكثر من السابق على رفض ممارسة الضغوط على الحكومة الإسرائيلية لاستئناف مفاوضاتٍ مجديةٍ، ذات آفاقٍ واعدة، ويشجّع على استمرار الهيمنة الكولونيالية الإسرائيلية، وسط تمنعٍ سلطوي فلسطيني عن إثارة أوار الصراع الذي خمد في أعقاب سنوات "أوسلو" والانقسام السياسي والجغرافي، وما أدى إليه من تخلق مصالح فئويةٍ وطبقيةٍ وفصائليةٍ وزبائنية، بات يستحيل على أصحابها نفض أيديهم منها، والعودة إلى سنوات الجمر والكفاح والغضب في مواجهة الاحتلال.

47584A08-581B-42EA-A993-63CB54048E47
ماجد الشيخ

كاتب وصحفي فلسطيني مقيم في لبنان. مواليد 1954. عمل في الصحافة الكويتية منذ منتصف السبعينات إلى 1986، أقام في قبرص، وعمل مراسلا لصحف عربية. ينشر مقالاته ودراساته في عدة صحف لبنانية وعربية.