نظرة إلى الحركات الانفصالية

نظرة إلى الحركات الانفصالية

01 اغسطس 2016
+ الخط -
يدفعنا الاستفتاء البريطاني بشأن البقاء في الاتحاد الأوروبي، أو الخروج منه، إلى البحث في العوامل والأسباب التي تعزّز تصاعد الخطاب الانفصالي في مناطق كثيرة ومتفرقة من القارة الأوروبية، ومن العالم عموماً، فمن نجاح الأحزاب الانفصالية الكتالونية، أخيراً، إلى الانتخابات اليونانية التي تمكن من خلالها رئيس الوزراء الحالي، تسيبراس، من تحقيق الانتصار بنتيجة تحالفه وبرنامجه الداعي إلى رفض إملاءات البنوك الدائنة والحكومات الراعية لها، والذي عبر عن الميل الشعبي اليوناني إلى الانسحاب من الاتحاد الأوروبي، إلى برامج وحملات إعلامية عديدة، تدعو إلى الخروج من الاتحاد الأوروبي، أو التي تدعو إلى الاستقلال السياسي والإداري عنه في دول متفرقة، كرد فعل على هزيمة الخطاب الداعي إلى الوحدة والاندماج الكامل، والذي يعتمد، في نظرته، على الطفرات العلمية والاجتماعية والاقتصادية الناتجة عن الاتحاد.
ففي السنوات الأخيرة، تصاعدت حالة الرفض للواقع الحالي، وقد نتجت هذه الحالة عن أزمات متعددة، منها الأزمة الاقتصادية وتبعاتها الاجتماعية من ارتفاع نسب البطالة وزيادة معدلات الفقر، والأزمة الثقافية المتمثلة بحصار الثقافات الوطنية، وتهميشها، كاللغة التي تم تهميشها في عدة دول، لحساب اللغة الإنكليزية مثلا، والعادات الغذائية التي بدأت تتماهى مع العلامات التجارية العالمية، والفنون التي بدأت تنصهر في نمط استهلاكي واحد، وغيرها من الأمثلة، بالإضافة إلى أزمة الاندماج في ظل التفاوت والاختلاف في العادات والتقاليد والوعي الاجتماعي الذي يشكل التعليم وتراكم الخبرة الوطنية الرافد الأساسي له. وبالتالي، أدت هذه الأزمات إلى ظهور قوى ومجموعات متنوعة، قامت باستغلالها، واستثمار رد الفعل الشعبي تجاهها، وركّزت جهودها حول رفض خطاب عولمة العالم، وخصوصاً فيما يتعلق بالوحدة والاندماج العالمي. بينما في الواقع، تدعو الجهات نفسها إلى الاندماج على أصعدة خاصة، كالمتعلقة بحركة رأس المال ونفوذه، ليشمل رواج الطروحات الرافضة والمناهضة لسياسات العولمة المتبعة دولاً متنوعة، سواء الأقل نفوذاً وسيطرةً، مثل إسبانيا والبرتغال واليونان وغيرها، أو الدول الكبرى كبريطانيا وفرنسا وأميركا وروسيا.
وتعمل غالبية القوى المعبرة عن الرفض الشعبي لسياسات العولمة على حرف الصراع
الاجتماعي، الآخذ بالنمو في غالبية دول العالم، بدلاً من بلورته بين أبناء الطبقتين، الدنيا والوسطى من جهة، مع الطبقة المسيطرة والفئات المستفيدة منها من جهة أخرى، فمثلا يتنامى الصراع العنصري على خلفياتٍ عرقية وإثنية بين مكوناتٍ اجتماعيةٍ، تعاني جميعها من السياسات الاقتصادية والسياسية والاجتماعية والثقافية نفسها، الموسومة باسم العولمة الليبرالية، بدلا من الصراع مع مسبباتها، والأمثلة عديدة، كخطاب مرشح الرئاسة الأميركية، دونالد ترامب، الذي يكيل الشتائم والهجوم ضد المواطنين الأميركيين من ذوي الأصول اللاتينية والإسلامية، وخطاب اليمين الأوروبي ضد المهاجرين، سواء الشرعيين أو غير الشرعيين، مروراً بخطابهم العدائي تجاه محاولات انضمام تركيا إلى الاتحاد الأوروبي. حيث يرتكز خطاب غالبية القوى المعبرة عن الرفض الشعبي لسياسات العولمة على تحميل وحدة الدول الأوروبية، فيما بينها أو مع غيرها من دول العالم الثالث، أسباب الأزمة الوطنية والعالمية ومعاناة الشعوب، بينما يغض النظر، سواء عن قصد أو عن عدم إدراك الأسباب الحقيقية لهذا الوضع، والمتمثلة في القوانين والإجراءات التي تخدم مصالح الطبقة الأصغر ذات السلطة الأكبر، لتسهيل عبور رأس المال والسلع وزيادة الأرباح وتهميش الباقين وزيادة معاناتهم، ومنها تعميم الاحتكارات والاستثمارات والسلع، وتسهيل انتقالها، من دون شرط أو قيد، وصولاً إلى انتشار ظاهرة الشركات العابرة للقارات، خصوصا المالية والخدمية، وهو ما يعمل على زيادة المساحات الجغرافيا والشرائح الاجتماعية المعتمدة عليها، فتتم الاستفادة من الاتحاد والعولمة في كلٍّ مما سبق ذكره، عوضاً عما نشر، وتعميم الإنجازات والإمكانات العلمية، بما يفضي إلى امتلاك شعوب العالم أدوات التصنيع والتقدم التي تساهم في عولمة التطور الصناعي والاقتصادي والاجتماعي الحقيقي، كما تكرّس العولمة القائمة التحالف الوثيق بين قوى العالم المتحضر "دعاة العولمة" مع القوى الاستبدادية والإجرامية في مختلف بقاع العالم، كدول الاحتلال، وفي مقدمتها الكيان الصهيوني ودول الاستبداد والقمع، مثل مصر في عهدي حسني مبارك وعبد الفتاح السيسي، بالإضافة إلى سورية وجميع الدول العربية وكولومبيا، وغالبية دول العالم الثالث، وبعض الدول الأوروبية أيضا، وهو ما يساهم في استنزاف ثروات وإمكانات الدول الأضعف واستغلالها، بدلاً من تعميم القيم و المبادئ والأخلاق الإنسانية المنجزة، سواء قيم الحرية والعدالة والمحاسبة لجميع أشكال الجناة.
لم تكن سياسات العولمة المتبعة حالياً خطأً فردياً أو مؤسساتياً، بل هي منهجية مدروسة النتائج، تقوم على تغليب مصلحة المؤسسات الرأسمالية النافذة، والمتحكّمة، على مصلحة شعوب العالم أجمع، بما فيها شعوبها المحلية، بينما نلاحظ استمرار تخبط (وانقسام) الحركة الشعبية المناهضة والرافضة لسياسات النهب والإفقار، وانجرارها نحو التقوقع داخل غلاف إثني، أو عرقي ضيق، قد تجاوزته الحضارة الإنسانية ثقافياً واقتصادياً، فتتصادم الشعوب الرافضة للعولمة فيما بينها، بدلاً من تصادمها مع القوى المستفيدة والمسيرة للسياسات العالمية، ما يتيح الفرصة لهذه القوى والمؤسسات المذنبة حقاً للتملص، واستمرار الهروب نحو الأمام.