الفجوة التي يسبّبها التعوّد

الفجوة التي يسبّبها التعوّد

30 يوليو 2016

كلينت إيستوود في "جسور مقاطعة ماديسون" (Getty)

+ الخط -
من شاهد، يوماً، الفيلم الرائع "the bridges of madison county" لميريل ستريب وكلينت إيستوود، تعاطف مع قصة الحب الرائعة التي جمعت بينهما. روبرت (إيستوود) مصور فوتوغرافي، يتوه في طريقه إلى جسور مقاطعة ماديسون، فتستضيفه فرانشيسكا (ستريب) ربة البيت إيطالية الأصل. وتحدث بينهما قصة حب استثنائية، تأسست على حالة الوحدة التي يعيشها كلاهما. لا يعيش روبرت في مكان محدّد، بل ينتقل من مكان إلى آخر، هرباً من التعلق والتعود على حالةٍ ما. وفرانشيسكا التي تزوجت رجلاً أميركياً، كانت تظن أنها ستحقق أحلامها، بالانتقال إلى عالمٍ أوسع معه، لتكتشف أن مقاطعة ماديسون أقلّ من أحلامها، بما لا يقاس، لكنها استمرت في الزواج، وأنجبت ولدين، وعاشت حياتها، من دون أن تجرؤ على التفكير حتى بما حلمت به يوماً.

لحظة التقائهما، اكتشف كلاهما أن ما يعيشانه ليس سوى حالةٍ من حالات التعوّد، حتى روبرت في تنقله المستمر كان في حالة اعتياد. لهذا، لم يشعر يوماً أنه أحبّ امرأةً إلى حد تغيير حياته لأجلها. اعتادت فرانشيسكا أيضاً على حياتها في مقاطعة ماديسون البائسة. لهذا، تناست كل أحلامها، واستمرّت في الحياة. كشف الحب المفاجئ بينهما الفجوة الهائلة في ذات كل منهما، الفجوة التي يسبّبها التعوّد. في اليوم الثالث قبل رحيل روبرت، وبعد عودة عائلة فرانشيسكا، كان عليها اتخاذ القرار الحاسم، أن تترك كل شيء، وتتبع قلبها وأحلامها، وتحدث تغييراً هائلاً في حياتها وحياة روبرت، لكنها، وفي مشهدٍ لا يمكن أن ينسى في تاريخ السينما، حين تمسك قبضة باب سيارة زوجها، لتنزل وتلحق بروبرت، تتراجع وتختار حياتها السابقة بكل بؤسها.

غالبية من شاهد الفيلم تعاطف مع قصة الحب هذه. تمنى كثيرون لو أن النهاية اختلفت، لو أن فرانشيسكا فتحت الباب، ونزلت وذهبت مع حبيبها، على أن أمنيات المشاهدين مجرد أمنيات درامية. في الواقع يختلف الأمر، قصة كقصة روبرت وفرانشيسكا لو حدثت في الواقع لاتهمت فرانشيسكا بالخيانة، ولقيل فيها أبشع الصفات التي يمكن أن تقال عن امرأة. في الواقع، لا يحق للمرأة المتزوجة أن تقع في حبّ رجلٍ آخر، كأن الزواج هو صك ملكية، يمكّن الزوج من امتلاك قلب زوجته وروحها وجسدها، غير أن المجتمع يتعامل مع خروج الزوج عن ملكية زوجته بوصفه نزوةً عابرة، بينما خروج المرأة  زنا وخيانة ، ليس الأمر هكذا فقط، ثمّة ما هو أكثر عمقاً وتركيباً من الحكم الأخلاقي المجتمعي لعلاقات الحب الشبيهة بالحب الدرامي.

نحن نتعاطف مع قصص الحب الدرامية، لأننا في قرارة أنفسنا نتمنى لو كنا أحراراً، لنخوض تجارب كهذه. يتزوج اثنان عن حبٍّ أو عن اتفاقٍ ما. بعد مدة، تتحوّل الحياة بين الزوجين إلى حالة اعتياد. ينحّي هذا الاعتياد تماماً حالة الشغف اللازمة لبقاء العلاقة الزوجية صحيةً وسليمة. ينحّي، أيضاً، القدرة أو الرغبة في التغيير والمغامرة. تصبح رغبة الحفاظ على السمعة الشخصية من التلوث بوصمة الحب (اللاشرعي) هي الأساس، حتى لو شعر أحد الزوجين بحبٍّ آخر، وحتى لو عاش التجربة، سيعيشها سراً، خشية الفضيحة. يتحوّل الجميع إلى حكّام أخلاقيين ضد من سوّلت له نفسه الوقوع في الحب. الجميع الذين يتمنون لو امتلكوا الجرأة على فعل الأمر نفسه، أو الذين يفعلونه بكامل السرية والحيطة.

ما يهم، هنا، هو الصورة الاجتماعية التي علينا أن نظهر بها أمام الآخرين. أما مشاعرنا ورغباتنا وأحلامنا وخيالاتنا فيجب علينا إخفاؤها، لكي نعيش الدور الذي كتب لنا، نحن عموماً نشبه الشخصيات في الدراما. حقيقتنا تختلف عمّا نُظهره. نحن جميعا ممثلون، نتقمص الشخصيات التي علينا أن نظهر بها، المناسبة لسياق المجتمع. لهذا، نعجب بقصص الحب المحرّمة في الدراما، لأننا نرى فيها شخصياتنا الأخرى ورغباتنا المكبوتة. كنا تمنينا لو أن الحب بأحلامه كلها انتصر في نهاية فيلم ستريب وإيستوود، لكن النهاية أعادتنا إلى الواقع، إلى ما يجب أن يحدث في عالمٍ يرى في الحب خروجاً عن قوانين الأخلاق التي تنتج أجيالاً مشوهةً ومحبطة، ويرى في الكراهية والقتل مواقف إيديولوجية، يجب أن تعم العالم.

BF005AFF-4225-4575-9176-194535668DAC
رشا عمران

شاعرة وكاتبة سورية، أصدرت 5 مجموعات شعرية ومجموعة مترجمة إلى اللغة السويدية، وأصدرت أنطولوجيا الشعر السوري من 1980 إلى عام 2008. تكتب مقالات رأي في الصحافة العربية.