العجز يتلذذ بتعذيب ضحاياه

العجز يتلذذ بتعذيب ضحاياه

29 يوليو 2016
+ الخط -
خمس سنوات من المقتلة السورية كانت كافية لتستجدي كل ما فينا إلى الهاوية، فأصبح العنف سمة سائدة، والقتل هواية ليس لها عقاب، والفقر هادم اللذات والفرح يفتقر للانتشار، مما جعل العجز سريع النمو وبنشاطٍ مفرط، بصفته حالة اجتماعية أو نفسية أو اقتصادية عابرة للجماعات والطوائف والمناطق.
لذوي العجز حاجات خاصة، من أهمها التوق إلى الخلاص دونما التفكّر بأي سبيل كان أو ما هي عواقب هذا الخيار، فأصبح الموت، ليس بمفهومه الفيزيولوجي السائد، بل تعدّى ذلك ليشمل كل جوانب حياتنا، وصل إلى ثنايا عقلنا، إلى حاجتنا إلى المعرفة، وإلى قدرتنا على التطوّر، ففي هذا الواقع الفقير للعافية، والجدير بالسخرية يصعب علينا تهجئة لغته، وحتى نتلعثم بقراءة مفرداته. كلّ هذه القراءات لهذا الواقع، تدل على أنّه مشهد سوريالي الملامح، ولكن تأتي دلائل ذلك من حالات ليست بقليلة ظهرت في الأونة الأخيرة، ومنها ما لا نسمعه ولا ندري به.
هذه الحالات، أهمها كان واقعة الانتحار التي أقدم عليها الراقص الفلسطيني السوري، حسن رابح، بعد قيامه برقصة الوداع، حيث لم يجد هذا الشاب العاجز هويةً تحتضنه، وملاذاً يجعله قادراً على الاستمرار، من دون أن يحمل عبء حربٍ لم يخترها، ولا تعنيه أساساً مع أنها دفعته ليصرخ بكل شجاعة: أنا لم أعد أحتمل، بعد أن تلاشت لديه عتبة الألم.
العجز نفسه هو ما دفع المقاتل إلى أن يحمل سلاحه، ليكون وقوداً لحربٍ ما كان ليختارها، لولا هذا العجز، قد يكون عجزاً سياسياً عن تحقيق ذاته، وعدم قدرته على التعبير عن رأيه، أو يكون عجزاً دينياً عن إثبات صحة معتقداته، والدفاع عن طهرانيتها من دون اللجوء إلى وسائل العنف التي تشبع شيئاً ما من رضاه عن ذاته.
نحن ضحايا هذا العجز الذي يمنعنا من دخول حربٍ أكبر منا، وفي الوقت نفسه، يجبرنا على تحمّل عواقبها بكل سادية، يتلذّذ هذا العجز بتعذيبنا، يستنزف صبرنا ويجعلنا قادرين على التصرف بأفعال كنا نستهجنها منذ وقت ليس ببعيد.
عبثية هذه الحرب التي تجبر كل من لا تعنيه أطرافها، انتصاراتهم وهزائمهم، تجبره على أن يكون أحد ضحاياها. يمكن تفنيد بعض المشكلات التي تدفع المواطن إلى اللجوء إلى اقتصاد العنف والاقتصادات السوداء، أو إلى البقاء تحت رحمة هذا العجز، أو الخوف من الغياب في سجون الاستبداد في أي وقت، وفي أي مكان، أو في رصد احتمالات الموت تحت رحمة نسبة الخطأ التي تحملها قذائف الهاون والطائرات، أو مزاجية القناص؟
لا يكفي هذا كله لوصف غياب عدالة القدر، ولن أخوض كثيراً في الأسباب لأنها تحتاج إلى بحوث كبيرة لمختصين وخبراء في مراكز دراسات.
كانت النتائج ردات فعل تدعو صاحبها، مثلاً، إلى القبول بالسفر بحراً في المجهول، حيث احتمالية الموت أكبر من المتوقع، أو اقتناع الجامعيين بالعمل بأيّ مهنةٍ مهما كانت منتقصة وناسفة لكل دراستهم، وذلك في سبيل الخلاص من هذا الذي يعيشونه يومياً في سورية. وفي سبيل أن يبقى على قيد البقاء إن استطاع إليه سبيلاً، وتنعكس تبعاته على المواطن السوري أينما ذهب، فأصبح الإرهاب جزءاً من هويته، لا يستطيع التنصل منها أوّل وهلة أمام الغرباء، حتى أنّه يحتاج ليشرح عدم علاقته بقضايا الإرهاب، حتى يظهر بريئاً من حكم مسبق للآخر عليه.
هنا، أصبح العجز مصطلحاً شاملاً، يضم تحت مظلته كل حالات الجريمة بحق أنفسنا، وبحق مجتمعنا دونما أن نكون نحن المجرمين عن سابق النية، لكن هذا العجز هو الذي دعا حامل السلاح، ليتحوّل إلى قاتل، والتاجر إلى تاجر أزمة، والسياسي إلى استغلالي وانتهازي ووصولي، والعاملين بالمجال الإنساني إلى مقامرين ينتظرون المقابلين، المادي والمعنوي.
أصبح العاجز يملك الجرأة والشجاعة للانتحار، ولا يأبه لأيّ شعور يدعوه إلى الخوف من العقاب، بل يبحث أن يكون مكتفياً بذاته بأيّ وسيلةٍ كانت بعد فقدان الاستقلالية، وعدم القدرة على تحقيق الرغبات، بسبب معيقات منشأها خارج الذات الفردية.
يبدو العاجز كظمآن يتمشى في صحراء قاحلة بحثاً عن الماء، وهذا يعني أنّه هناك تفاوت بين كمية الإنتاج وكمية الطلب أو زيادة مفرطة في الطلب على الحاجة مهما كانت مادية أو نفسية او اجتماعية.
يتلذذ العجز في تشريح أحلامنا، وتفتيت هويتنا، ويدعونا إلى الكفر بهذا الوطن الذي حلمنا به، أن يكون جامعاً لنا، وضامناً لسلامتنا.
6BC2C726-22A9-4173-945A-B07331970E47
6BC2C726-22A9-4173-945A-B07331970E47
عبد الرحمن فتوح (سورية)
عبد الرحمن فتوح (سورية)