ماذا يحدث في تركيا؟

ماذا يحدث في تركيا؟

28 يوليو 2016
+ الخط -
سبق للراحل محمد أركون أن سجّل ملاحظة مهمةً، في دراسة نشرها في سنة 1984، في موضوع حدود النزعة الوضعية والتقليد في المنظور الإسلامي، اعتنى فيها بدراسة تجربة مصطفى كمال أتاتورك، وتساءل، وقتها، عن عدم اهتمام الثقافة السياسية العربية بالتجربة التي قام بها أتاتورك، عند إلغائه السلطنة والخلافة، وإعلانه الجمهورية، ثم إلغائه منصب شيخ الإسلام ووزارة الشريعة والمدارس الدينية والمحاكم الشرعية، وكذا حَلِّه الطرق الصوفية وإغلاقه الأضرحة.
نعرف اليوم جوانب من الآثار التي ترتَّبت عن خيارته المذكورة طوال القرن العشرين في تركيا، كما نلمس جوانب من هذه الآثار، وما تلاها في بعض المجتمعات العربية وفي الفكر النهضوي، حيث يمكن أن يُقْرَأ نص علي عبد الرازق "الإسلام وأصول الحُكْم" (1925) ضمن التأثير الذي مارسه الحدث المذكور في الفكر السياسي العربي، إلاّ أن ما حصل في تركيا منذ تسعينيات القرن الماضي يمكن أن يُفهم في إطار المكاسب الكمالية التي ترسَّخَت، وأصبحت جزءاً من النسيج الثقافي والمجتمعي في تركيا، وهو يدعونا إلى مزيدٍ من العناية بكل التحوُّلات الجارية في مجتمعٍ تحكمنا مِثْلَهُ قِيَمٌ وثقافةٌ مشتركة.
أتصور أنه لا يمكن أن نكتفي في تعقُّل الانقلاب الحاصل في تركيا ليلة 15 يوليو/ تموز الماضي، بما حصل ويحصل فيها في السنوات الأخيرة، بل يجب أن نَرْبِطَه بسياقاتٍ أعمق وأكبر، سياقات تُسَائِل نتائجها في الحاضر والمستقبل التركيين، خصوصاً وأن أغلب التعليقات الجارية في الإعلام المكتوب والمرئي تميل إلى التموقُع المنحاز سلباً أو إيجابياً، ومن دون عناية بالأبعاد والسياقات المتصلة بما جرى ويجري.
لا يمكن فَصْل حَدَث الانقلاب عن تداعيات الربيع العربي، وهي متعدِّدة ومتناقضة، كما لا يمكن فصله عن علاقة واشنطن بتركيا، وعن دور تركيا في حلف شمال الأطلسي، ومشكلة المهجَّرين والاتحاد الأوروبي، كما لا يمكن فصله عن الدور الإقليمي لتركيا في علاقاتها المُعَقَّدة بأوروبا وبالعالم العربي، ولا يمكن فصله عن كل ما وقع ويقع في سورية والعراق، وكذا من دون نسيان إشكالات التعدُّد الاثني بمختلف تبعاتها، ولا يمكن فصله أيضاً، وهنا مربط الفرس، عن الإسلام السياسي في السلطة والديمقراطية.
تجد مختلف السياقات والعوامل المؤطِّرة بصورة أو بأخرى لِمَا حصل ويحصل اليوم في تركيا، لها صدىً في التفاعلات التي كانت وراء حصول الانقلاب، كما نجد لها تبعاتٍ أخرى أيضاً، في الأبعاد التي أصبح عليها الوضع في تركيا بعد مباشرة عملية توقيف الانقلاب.
وإذا كان من حقّ المقتنعين بالدور الذي مارسه حزب أردوغان في تقوية مكانة تركيا وتعزيزها
في الاقتصاد والسياسة في المجتمع التركي، فإن من حقّ الذين يَتَحَفَّظُون على بعض ما جرى ويجري في تركيا في السنوات الأخيرة، من مواقف وسلوكات تنزع نحو نوعٍ من الهيمنة أن يتحفظوا على الخيارات والمواقف الكاشفة عن تحوُّلاتٍ ترسم ملامح خلط سافرةٍ بين المكوِّنين، الديني والسياسي، في المجال العام، ذلك أننا نعتقد أن حصول الانقلاب يكشف عن تناقضاتٍ مُحَدَّدة، بعضها مرتبط كما وضَّحنا بالأوضاع الداخلية، وبعضها الآخر حصل تحت تأثير المعطيات الإقليمية والدولية في عالم متغير، الأمر الذي يدعو إلى التفكير بهدوء في كل هذا الذي جرى ويجري اليوم، حيث تتواصل ردود الفعل داخل تركيا بكثيرٍ من العنف، والمعلوم أن حكومات الأغلبية في الأنظمة الديمقراطية لا تمنح نفسها مواصفاتٍ تحوُّلِها إلى فزَّاعةٍ أمام باقي مكوِّنات المجتمع.
نَتَبَيَّن ذلك في تعليقاتٍ كثيرة تحاول فهم ما جرى في تركيا ليلة الانقلاب، وما تلاها من أحداث، فهل يمكن القول إن الانقلاب هو نتيجة صراعٍ بين حزب العدالة والتنمية والتيار الصوفي الذي يقوده فتح الله غولن؟ أم أن بعض التحولات التي عرفها المجتمع التركي، في العقدين الأخيرين، تروم التخلُّص من روح المشروع الكمالي، بالتمهيد لبدايات تجاوُز النظام الرئاسي والعودة إلى السلطنة؟
يصعب أن نُجيب على مثل هذا السؤال، من دون التفكير في موضوع النتائج المتعلقة بما يقرب من قرنٍ على القطيعة التي أعلنها أتاتورك مع نظام الخلافة وأصوله ومفرداته المُسْتَمَدَّة من تاريخٍ قديم. كما أن التحوُّلات التي صنعت من تركيا نموذجاً في التنمية بنظام تَعَدُّدِي ديمقراطي، لا يمكن أن تُغْفِل أدوار كل ما سبق في تأسيس مجتمع جديد. صحيحٌ أن ضغوط صُور توظيف تأويلات عديدة ومتناقضة للإسلام وشرائعه يُمكن أن تسمح، من جديد، بعودة الْمُزَاحِ والمقطوع معه منذ عقود.
نتصوَّر أن فهماً هادئاً لما جرى ويجري اليوم في تركيا يتطلَّب عدم إغفال ما ذكرنا، مثلما يتطلَّب الانتباه إلى التداعيات التي ما تزال تدفع بعضهم إلى التساؤل: هل بدأ الانقلاب في تركيا أم انتهى؟
C0DB4251-3777-48D1-B7F6-C33C00C7DAEB
كمال عبد اللطيف

محاضر في جامعات ومؤسسات بحث في المغرب وخارجه، عضو في لجان جوائز ثقافية في مراكز بحث وجامعات عربية. يساهم في الكتابة والتدريس الجامعي منذ السبعينيات، من مؤلفاته "درس العروي، في الدفاع عن الحداثة والتاريخ" و"الثورات العربية، تحديات جديدة ومعارك مرتقبة".