كلماتٌ ماتت

كلماتٌ ماتت

26 يوليو 2016
+ الخط -

الحَـيَاء: يجتمعون ويصرّحون، ويوهموننا أنهم يديرون شؤون البلاد. سرقوا المياه، سمّموا البحيرات، تقاسموا النفايات وأغرقونا بها. عاثوا خراباً حتى أفسدوا الملح. ولا يرفّ لهم جفن. ولا يخشون شيئاً. لا حياءَ ولا خوف من محاسبةٍ أو اقتصاص، ولا أزمة ضمير. بل يستمرّون يظهرون ويجتمعون ويصرّحون، كما لو أن شيئاً لم يكن. يدعونهم إلى إجراء لقاءاتٍ صحافيةٍ ومقابلات تلفزيونية، فيَقبلون، مُقبلين على كلامٍ مهلهلٍ رخيص. شخصيات لا سماكة لها، لا عمق، تلوح من وراء جِلودها المتحجّرة نواياها النتنة. وضحكات وابتسامات تثير الاشمئزاز والرغبة في التقيؤ. يلوكون كلاماً مجترّاً، كلاماً فارغاً من المعنى، ثم يتمازحون ويتصافحون، ويعطوننا دروساً في الوطنية والتضحية وصواب الرؤية وحسن الإدارة ورفعة الأخلاق.

لم تبلغ طبقة سياسية في لبنان هذه الدرجة من التعفّن، أو دركات الفساد هذه، وأشكّ أن السياسة بلغت يوماً مثل هذا الانحطاط. ومع ذلك، هم أصحاب القرار وصُنّاع حياتنا ويومياتنا البائسة ومزاجنا العام. كأنهم قدرنا السيّئ، "كارما" لبنان، سلّمنا بأمرهم وسلّمنا بأمرنا معهم، وأطبقنا الباب ودخلنا في السُبات. وإذ تكدّر علينا أحلامُنا، نستعيد شيئاً من حساسيتنا، نحن فاقدو الإحساس، فنرى في مناماتنا شخصياتٍ انتهت حياتها السياسية، إثر تورّطها بفضيحة ما، وأخرى وضعت حدّاً لحياتها، لأن لا طاقة لها على احتمال سوء السمعة وتبكيت الضمير. نحلم بنظمٍ أخلاقيةٍ تؤطّر السياسيَّ وتشكّل رادعاً له، فإن اختلّ هذا، انفكّ عنه هؤلاء. وللتذكير، نقيض كلمة حياء هي الوقاحة، وأية وقاحة!  

 المروءة: ظلَّ الرجلُ يلكم المرأة في سيارتها على وجهها، لأنها لم تحِد له عندما أطلق بوقَ سيارته على مداه. الأحرى أنها استدارت وصرخت في وجهه عبر النافذة أنها لا تستطيع القفز على صفّ السيارات المزدحمة أمامها. أغضبه أنها تجرّأت والتفتت إليه، ما زاد حنقه، وأعطاه المبرّر لينقضّ عليها فـ"يفشّ خلقه".

لم يتدخّل أحدٌ لرفعه عنها. لم يصرخ به أحدٌ أنْ كُفَّ يدك، فما تفعله عيبٌ، وأنت إنما تستقوي على امرأةٍ لم تذنب بحقّك، ولم تعتدِ عليك. وقفوا يتفرّجون كمن يتفرّج على مشهدٍ غريب، كفضوليين يستوقفهم تفصيلٌ ما، فيبطئون قليلاً قبل أن يتابعوا الطريق. والحال أن لا حجة لديهم، فهو ليس طارق اليتيم الذي انهال على من حاشره بسيارته بضربات سكينه الصغيرة ورفساته، حتى قتله. بل ربما لو أنهم تدخلوا، كُثـُراً، لإيقاف اليتيم، لنجحوا في إنقاذ ضحيته من الموت. بل لرُبّ أن رلى يعقوب ومنال العاصي وكريستال أبي شقرا ورقية منذر وكل اللواتي قضين تحت تعنيف أزواجهن وضربهم لهن، كنّ نفذن من الموت، لو تدخّل الجيران عند سماع صرخات الاستغاثة، فسحبوهن من بين أيدي قتلتهن، وحموهنّ.

ثمّة ما انطفأ في قلوب الناس. المروءة. والمروءة هي "آدابٌ نفسانيَّةٌ تحمِلُ مُراعاتُها الإنسانَ على الوقوف عند محاسِن الأخلاق وجميل العادات، أَو هي كمال الرُّجوليَّة" (المعجم الوسيط).

الرَحْمَة: لم أفتح شريط فيديو ذبح الطفل عبدالله العيسى الذي ضجّت بخبر نحره، على يد مجموعة معارضة للنظام السوري، وسائلُ التواصل الاجتماعي. كما لم أفتح قبلا فيديو ذبح الصحافي الأميركي جيمس فولي، ومن بعده الصحافي الأميركي ستيفن سوتلوف، ومن بعدهما أيّاً من أفلام الذبح والحرق والتعذيب التي كان ينشرها تنظيم داعش عبر شبكة إنترنت. لم أُرد لعينيّ أن ترى هذا، ليس لأن هذا يفوق قدرتهما على الاحتمال، بل على العكس، أي خوفاً من قدرتها ربما على الاحتمال، بحيث تعتاد وتتجاوز، من ثمّ، ما يفوق ذلك بكثير.

وقد كان صاعقاً ومخيفاً أن يتركّز النقاش على سنّ الضحية عبدالله وجنسيته، لا على الفعل بحد ذاته، وأن يتراجع الفعل الوحشي الذي يشكّله ذبحُ إنسانٍ على يد إنسانٍ آخر، إلى نقاشٍ "سياسي" بين مدافعين عن الثورة ومدافعين عن النظام، فيما دماء المنحور لم تجفّ بعد.

مضينا بعيداً في قتل الرحمة فينا، إلى حدٍّ أصبحنا معه شركاء في الجريمة، وليس شهوداً عليها فحسب. ونقيض الرحمة هو القسوة، والقسوة كما أراها، هي العنف متخلّصاً من كل مبرّراته. أما قسوتنا فقد جاوزت كل مستويات القسوة بأشواط.

 

 

نجوى بركات
نجوى بركات
كاتبة وروائية لبنانية ومؤسسة محترف "كيف تكتب رواية"