هل تبدّد إرث الدّبلوماسـيّة السـودانيّة؟

هل تبدّد إرث الدّبلوماسـيّة السـودانيّة؟

17 يوليو 2016
+ الخط -
(1)
بعض من يقول عن السودان إنه كان مستعمرةً بريطانية، قد لا يكون دقيقاً في التوصيف، بل يجوز إلقاء حديثه جانباً، بحسبانه نوعاً من رمي الكلام على عواهنه، والعواهن هي الساقط من يابس قضبان النخيل، واليباس بالطبع لا نفع فيه ولا رجاء منه. كان السودان محكوماً باتفاقية ثنائية فريدة، صيغت في العام الأخير من القرن التاسع عشر، قننت إدارته ستين عاماً تحت التاج المصري نظرياً، وتحت السيطرة البريطانية فعلياً، بحكم وقوع مصر نفسها وخضوعها للإرادة البريطانية. كثيراً ما كنت أسمع صديقنا السفير بشير أبو ستة، حين يأخذنا الحديث عن العلاقات السودانية المصرية، يقول عن السودان، إنه "حاشية" على "متـن" مصر، أي هو محض "فوت نوت"، كقول الفرنجة، على أصل الكلام.
ظنّي أن ذلك وصف دقيق، درجتْ على اعتماده أكثر الأنظمة التي حكمت مصر في عقود القرن العشرين المنصرم، ورسمت صورةً غير حقيقية في الذهن المصري، كما في الذهن الآخر البعيد. ليس أدلّ على ذلك إلا إصرار المخابرات المصرية الإمساك بملف السودان، وكأنه شأن مصريّ داخليّ، من دون أن تسمح لوزارة الدبلوماسية المصرية بالتوغل في تفاصيله، وهي الجهة التي تتولى رسمياً معالجة علاقات مصر الخارجية. هذا جانبٌ كثيراً ما لا يلتفت إليه المحللون، فيما هم عاكفون على النظر في ملفاتٍ معقدة، تكتنف أجواء العلاقات السودانية المصرية. لم يفلت ملف السودان يوماً من يد المخابرات في القاهرة، منذ قبل الثورة المصرية في يوليو/ تموز 1952، وهو التاريخ المفصلي الذي انبرتْ مصر بعده، في انتهاج سياسات نصّبت نفسها خلالها عرّاباً للوحدة وللقومية العربية. من ذلك أن اتفاقية الحكم الذاتي عام 1953، التي أفضت إلى استقلال السودان، قد أنجزتْ بعد أقل من عام من قيام الثورة المصرية. وقتها، وجدتْ الحركة الوطنية السودانية من يتفهّم توجهاتها.
(2)
بالقدر نفسه من الأهمية، علينا أن نتنبّه إلى الوضعية التي عليها السودان في الدوائر البريطانية. إذ لم تمنح طبيعة اتفاقية الحكم الثنائي الموقعة في 1899 بريطانيا، تلك الصفة الدستورية التي تجعل من السودان "مستعمرةً" بريطانية بالمعنى الحرفيّ، حتى وإن كانت لندن تعيّن الحاكم العام، بعد موافقةٍ شكليةٍ من التاج المصري. في الحقيقة إن "وزارة المستعمرات" في لندن هي التي تشرف على المستعمرات التاريخية لبريطانيا في القارة الأفريقية جنوب الصحراء، ولم يكن السودان من بينها. شؤون السودان تعالج جميعها في وزارة الخارجية البريطانية، فالسودان ليس "مستعمرة" (colony) بالمعنى القانوني. كان استقلال السودان، تبعاً لهذه الطبيعة الاستثنائية، سهلاً ميسوراً من وجهة النظر البريطانية، ولا تقارن سنوات الحكم الثنائي التي تقل عن الستين عاماً في السودان، بسنوات الوجود البريطاني الطويل نسبياً، في مستعمرات بريطانيا الأخرى في القارة الأفريقية، والتي كانت تدار شؤونها بواسطة "وزارة المستعمرات".
(3)
لتأكيد أهمية هذا الجانب، شكلت البلدان الأفريقية التي نالت استقلالها خلال العقدين اللذين تليا نهاية الحرب العالمية الثانية، شكلت جميعها، وباقتراح بريطاني منظمة "الكومنولث"، وهي التي أبقت للتاج البريطاني طرفاً من السيادة الشكلية على هذه البلدان. لم يكن السودان، وبوضعه الاستثنائي، مؤهّلا لأن يلتحق بالمنظمة، حتى وإن تطلعت بعض النخب السودانية إليها يوماً. من مظاهر هذه السيادة البريطانية الشكلية على البلدان الأعضاء في "الكومونولث"، ألا يحمل رؤساء البعثات الدبلوماسية ممثلو الدول الأعضاء في منظمة "الكومونولث" لقب "سفير" في لندن، بل يسمّى الواحد منهم "المفـوّض السّامي"، (commissioner high)، ولا يمنحون، تبعاً لذلك، امتياز رفع أعلام بلدانهم على سياراتهم الدبلوماسية، أو دور مكاتبهم وسكناهم. على أن ذلك الترتيب لا يحرمهم من بقية الامتيازات الدبلوماسية العامة، التي نصّت عليها اتفاقية فيينا لعام 1961، والتي تنظم العلاقات الدبلوماسية بين الدول.
(4)
لخصوصية وضعه، وبعد نيله الاستقلال، كانت للسودان قدرة عالية على المناورة والتفاعل في
محيطه الجغرافي، فتراه يلعب أدواراً إيجابية وسط بلدان القارة الأفريقية جنوب الصحراء، في العقود الوسيطة من القرن العشرين. من تلك المبادرات المميزة على مستوى القارة الأفريقية: في عام 1955 وللسودان صيت كبير ودور رائد في لعبة كرة القدم الأفريقية، شهدت العاصمة الخرطوم ميلاد اتحاد الكرة الأفريقي، وباقتراح من السودان. في 1960، كان للسودان دور إيجابي فاعل في أزمة الكونغو، واستضاف ثوار تلك البلاد الذين كان يقودهم باتريس لوممبا الذي اغتيل بدم بارد بتواطؤ خونة كونغوليين وجنود بلجيكيين. في 1963، لعبت دبلوماسية السودان دوراً محورياً في لمّ شتيت القارة الأفريقية، وقد توزّع بين مجموعتي الرباط ومونروفيا، لتكتب الأقلام السودانية، بين أول الأقلام، ميثاق منظمة الوحدة الأفريقية في أديس أبابا، والذي صار اسمه "الاتحاد الأفريقي". في 1958، أنشأتْ هيئة الأمم المتحدة اللجان الاقتصادية للقارات، فكان أول رئيس للجنة الاقتصادية في أفريقيا الخبير السوداني مكي عباس، وقد عينه الأمين العام للأمم المتحدة في 1960 ممثلا عنه لحل مشكلة الكونغو. في 1962، يقترح السودان إنشاء مصرف للقارة الأفريقية، سمّي بنك التنمية الأفريقي، فكان أول رئيس له هو الخبير الاقتصادي السوداني مأمون بحيري. في 1972، عرض السودان على البلدان استضافة المصرف العربي للتنمية في أفريقيا، فكسب المصرف مقراً له في الخرطوم. في سنوات السبعينيات من القرن الماضي، كانت للسودان ولدبلوماسيته الناهضة أدوار محمودة في مساندة حركات التحرّر في القارة الأفريقية. بل مضى السودان إلى أكثر من ذلك، فكان هو اللاعب المؤثر في استقرار جيرانه الذين يحيطون به: إثيوبيا وإريتريا وتشاد وأوغندا والكونغو.
(5)
لك أن تسأل، بعد أن انطوتْ سنوات حقبة الحرب الباردة، والسودان غير السودان الذي كان: أين دور السودان على مستوى القارة الأفريقية، منذ أوائل الثمانينيات وإلى العقد الثاني في الألفية الثانية الماثلة؟
فقد السودان مكانته القيادية في الاتحاد الأفريقي في أديس أبابا، إذ ليس له أيّ مفوضٍ في مفوضياتها العديدة، وفقد بنك التنمية الأفريقي في تونس آخر وجه سوداني مشرف فيه، بخروج زينب بشير البكري، لأن حكومة بلادها لم تساند بقاءها في منصبها نائبة للمدير العام في عام 2009. وفي منظمة "الإيقاد"، غادر السفير عطا الله حمد بشير قيادة دفتها، وكان يمكن بقليل جهد، أن يحظى بموافقة أفريقية للبقاء في منصبه أميناً عاماً لها، وهو الدبلوماسيّ السودانيّ الذي لعب دوراً متوازناً ومقدراً وراء الكواليس، لإنجاز "اتفاقية السلام الشامل"، التي ولدتْ بمبادرة منظمة "الإيقاد". أما في اللجنة الاقتصادية في أفريقيا، وفي اتحاد الكرة الأفريقي، فالحال يغني عن السؤال.
تُرى، هل سنسأل سؤالاً شبيهاً بذلك السؤال المأساوي، وطرحه الأديب الراحل الطيب صالح، قبل وفاته بسنوات: من أين أتتْ قيادة هذه الدبلوماسية التي أفقدت السودان بعضَ أو كلّ إرثه الدبلوماسيّ المقدّر، على مستوى القارة الأفريقية؟
قال هاملت في سؤاله الملحميّ: أكون أو لا أكون؟ أمّا الدبلوماسية السودانية فكأنها آثرتْ ألا تكون.