قانون التحرّش الجنسي في ألمانيا مجدّداً

قانون التحرّش الجنسي في ألمانيا مجدّداً

16 يوليو 2016

البرلمان الألماني أصدر قانونا وسّع فيه تعريف جرائم الجنس(7يوليو/2016/Getty)

+ الخط -
صوّت البرلمان الألماني (البوندستاغ) بالإجماع على قانون جديد يوم 7 يوليو/ تموز الجاري، يوسِّع فيه تعريف "جرائم الجنس". اختصر تعريفه على جملة صارمة: لا.. تعني لا. وهذا يعني، من الناحية النظرية، أن رفض المرأة بكلمة "لا" يعني عدم وجود موافقة، وبالتالي، فالعملية إذا ما تمّت هي اغتصاب. والاغتصاب، كمفهوم لغوي، أخذ الشيء عنوةً، أي بحكم الأقوى، من دون السؤال عن رغبة مالك الشيء، أو قراره، في أن يمنح أو لا يمنح ما يملك، فهو، إذن، قهر للإرادة وامتلاك لكيان الآخر.
وإذ يُعتبر الاغتصاب جريمةً يعاقب عليها القانون في مختلف أنحاء العالم، فإن العقوبة تختلف من دولة إلى أخرى، ولهذا التباين علاقة بالأعراف والقيم والثقافة السائدة، وله علاقة بوضعية المرأة، ومكانتها الاجتماعية وصورتها النمطية في ثقافة المجتمع المعني، فمجتمعاتنا ما زالت تحكمها قوانين اجتماعية وأعراف وفتاوى أقوى من أي قانون وضعي، ما زال قانون جرائم الشرف، بشكليه التشريعي والعرفي، مثالاً فجّاً على مفهوم الاغتصاب الذي يكشف حقيقة النظرة الدونية للمرأة فيها. وبناءً عليه، يختلف التوصيف القضائي لجريمة التحرش أيضاً من مكان إلى آخر، ففي القانون الألماني الجديد، يصنّف التحرّش عبر اللمس خلال التجمعات الكبيرة "جريمة جنسية".
صحيح أن هذا القانون استهلك سنوات سابقة في النقاش والدراسة. لكن، ربما الاعتداءات الجنسية التي وقعت في ليلة رأس السنة للعام الجاري، في كولونيا ومناطق أخرى من ألمانيا، وتم توقيف عشرات المتهمين، بينهم سوريون وأفارقة، قد سرّعت في صدوره. لذلك، يمكن تفهّم الرأي أنه موجه بشكل خاص ضدّ الرعايا الأجانب، يسهل بموجبه ترحيل المتهم بالاعتداء أو التحرّش إلى المكان الذي أتى منه، لو أثبتت التهمة الموجهة ضده في وقائع المحاكمة. لكن، هناك جانب آخر لا يمكن تجاهله، هو ميل الحكومة الألمانية إلى ضبط المشكلات ومحاولة تفاديها قبل وقوعها، أو التخفيف من احتمالات وقوعها، وهجمة اللجوء الكبيرة التي انتهى جزءٌ كبير منها في ألمانيا لا بدّ من أن تسبب اضطراباً ما في استقرار المجتمع الألماني القائم على ثقافةٍ شكلتها تجارب التاريخ.
هناك من يقول إن جرائم الاغتصاب مرتفعة النسبة في ألمانيا، إذ نقلت وكالة أنباء "دي.بي.آي" الألمانية أن عدد حالات الاغتصاب في ألمانيا يصل إلى 8000 سنوياً، لكن ليست كل الجرائم المبلغ عنها تؤدي إلى الإدانة. لذلك، قالت وزيرة الأسرة الألمانية، مانويلا شفيزيغ، تعليقاً على القانون: "في الماضي، كانت هناك حالات تم فيها اغتصاب النساء. ولكن، لم تتم معاقبة الجناة"، مضيفة أن هذا "التغيير في القانون سيساعد الضحايا على توجيه الاتهامات، وخفض وضع عدد المحاكمات الجنائية على الرف، وضمان معاقبة الاعتداءات الجنسية بشكل صحيح." لكن الجديد في الأمر هو التوصيف الصارم لمعنى الاغتصاب، والذي
يقترب أكثر من جوهر الإنسان باقترانه الشرطي بكلمة لا. لا التي تصبح معياريةً هنا، تأخذ دلالة شديدة الكثافة، وتملك قوةً تضاهي القانون الراسخ. وبالتالي، يمكن للمرء أن يطرح على نفسه أسئلة كثيرة انطلاقاً من هذا القانون، عن وضع المرأة السورية في بلد اللجوء ألمانيا.
دفعت المرأة السورية الفاتورة الأكبر في ظل الحرب السورية، عدا عن أنه، في الأساس، تُمارس بحقها أشكال متنوعة من العنف، بمباركة اجتماعية وتخاذل قانوني، من دون أن يُسأل الجاني أو يُحاسب، نرى العنف مستشرياً في ثقافة المجتمع، ويطبع سلوك شريحة كبيرة من أفراده، بل يمكن النظر إليه على أنه الوجه الطبيعي للحياة، فكم تتعرّض المرأة للاستغلال والتقييد وانتهاك كيانها الروحي والجسدي؟ وكم من النساء زُوّجن ويُزوّجن، من دون أخذ آرائهن، أو موافقتهن، على الزواج، وأجبرن بحكم الشرع والقانون والأعراف على تسليم أجسادهن وإرادتهن لطرفٍ هو الأقوى، وهو السيد والمتسيّد؟ المجتمع الشرقي محكوم بالدين والشريعة، كما يفرضها ويمارسها رجال دين ذوو سطوةٍ مباركةٍ من النظام السياسي، ومتشابكة مع سطوته، مثلما مع سلطان اجتماعي جائر، يضع المرأة في خانة مسلوبي الإرادة، فنساءٌ كثيرات يمضين أعمارهن في حالة اغتصاب دائم، معنوي ومادي، بل حتى الحاضنة الاجتماعية لهذه المكانة تصنع مقولاتها الشفهية الحاملة لمنظومتها القيمية، وتصبح لها سطوة تفوق سطوة القوانين، مثل أن يُسمى بيت الزوجية بالنسبة إلى المرأة الناشز، بحسب حكم المجتمع، بيت الطاعة، وهذا البيت جدرانه المعنوية أمتن من جدرانه الإسمنتية، ففيه تنحني المرأة صاغرة لكل رغبات الرجل وشهواته واشتراطاته، ولا يمكن غفلان السند الديني والفقهي لهذه الحالة، والتي تصنف العلاقة الزوجية حقاً شرعياً للزوج على زوجته. وبموجبه، فإن المرأة التي يطلبها زوجها إلى الفراش وتمتنع ملعونة روحها، كما أكّد الفقهاء وبارك المجتمع السلطوي تأكيدهم، بحسب الحديث النبوي: (قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِذَا دَعَا الرَّجُلُ امْرَأَتَهُ إِلَى فِرَاشِهِ فَأَبَتْ فَبَاتَ غَضْبَانَ عَلَيْهَا لَعَنَتْهَا الْمَلَائِكَةُ حَتَّى تُصْبِحَ.). فكيف سيكون وضع المرأة السورية اللاجئة، وما هو رد فعل الزوج اللاجئ أيضاً؟
للمجتمع الجديد في بلد اللجوء ثقافته وقوانينه، واللاجئون قارعوا الموت هاربين من موت آخر، ومنهم من شهد ما يشيب له شعر الطفل من هول الحرب وجرائم الاعتداء والاغتصاب، فالاغتصاب من سمات الحروب، وقد عانت منه غالبية الشعوب، حتى المرأة الألمانية استبيحت من الجيش الأحمر في الحرب العالمية الثانية، وتعرّضت النساء للاغتصاب بأعدادٍ كبيرة، كانت القضية مغلقاً عليها، لأن المجتمع لم يكن قد تخلص من عبء جرائم الشرف وتبعاتها على المرأة بالدرجة الأولى، لكن واحداً من أسرار نجاح هذا البلد، وقدرته على النهوض من رماده، هو التصالح مع الماضي، الذي لا يتحقق إلاّ بوضعه على طاولة التشريح تحت الأنوار الكاشفة. فما هي المكاسب، وما هي التحدّيات التي ستواجه المرأة السورية اللاجئة أمام قانون يربط الإرادة الحرة بكلمة لا؟ هذه الكلمة التي لم يكن يجرؤ على قولها السوري، حتى في أحلامه تحت حكم نظامٍ جائر، وبدرجة أكبر لا تجرؤ المرأة السورية على التفكير بها في سرّها، مهما تعرّضت للضغط والسطوة واغتصاب الإرادة، هل ستستفيد المرأة السورية من هيبة القانون في ألمانيا، وتستعيد ثقتها بنفسها لتصبح قادرةً على أن تكون فاعلةً أكثر في الحياة، وعلى تحقيق طموحاتها؟ وهل سيدفع هذا القانون الرجل السوري في بلد اللجوء إلى وقفة تأمّل، وجرد حساباته السابقة، وتفنيد الثقافة التي شبّ عليها، فمنحته ثقةً بالنفس مطلقة، فيحتكم إلى العقل والضمير، ويقرّ بأن الهويات كائن حي يتطور ويعيش ويزدهر، بقدر ما يكون قابلاً للحياة.