عن النخب والديمقراطية وحزب العمال البريطاني

عن النخب والديمقراطية وحزب العمال البريطاني

16 يوليو 2016

العداء لكوربين، بسبب مواقفه اليسارية والراديكالية، مثير للدهشة (13يوليو/2016/Getty)

+ الخط -
قرّر حزب العمال البريطاني، بعد صراع حامٍ مدار العام، التوجّه مجدّداً لانتخابات رئاسة الحزب، بعد مرور أقل من عام على انتخاب جيرمي كوربين في سبتمبر/ أيلول الماضي. وعلى الرغم من احتدام الصراع، بعد نتائج استفتاء الخروج من الاتحاد الأوروبي، إلا أن من الواضح للمراقب المحايد أن الجولة الحالية من المعركة كانت مجرد عذرٍ لمواقف معدّة سلفاً.
ما يهمنا أن الجماهير عبّرت في أكثر من بلد، وأكثر من مناسبة، عن ازدرائها المؤسسات الحزبية الرسمية، واحتجاجها على النمط السياسي السائد. فمن اليسار، هُناك بيرني ساندرز في الولايات المتحدة، وسيريتزا في اليونان، وبوديموس في إسبانيا، وجيرمي كوربين في بريطانيا. وفي الوسط، هناك حركة النجم الخامس في إيطاليا. وفي اليمين، هناك دونالد ترامب، وكذلك نيجيل فرّاج وحزب الاستقلال البريطاني. وكان الأخير سيحصل على مقاعد برلمانية أكثر لو اتبعت بريطانيا طريقة الانتخابات النسبية بدل المناطقية. لذا، تتضح قوّته في الانتخابات للبرلمان الأوروبي والاستفتاء المباشر.
واستطاعت عديد من هذه الحركات تجاوز تكتلات السياسة ورأس المال التقليدية، عن طريق ابتداع وسائل التنظيم غير الهرمية، واستغلال وسائل التواصل التكنولوجية، وجمع الأموال من أعداد كبيرة من الناس. وبذلك، استطاعت مواجهة نغمة العزوف عن السياسة، واجتذبت ناساً كثيرين، خصوصاً من صفوف الشباب، إلى التنظيم السياسي.
لكن، في المقابل، من الواضح أنه ما زال هناك عداء شديد وخوف كبير من الديمقراطية الشعبية، فالنظام الديمقراطي الدستوري مبني على التناقض الجوهري بين الديمقراطية (أي حكم الأغلبية) والحقوق الدستورية (أي القيود على الإرادة الشعبية). ويبدو النظام ناجحاً ما دامت الجماهير مكتفيةً بالجلوس في البيت، بينما تقوم النخب بإدارة النظام، مستدعية الجماهير، مرةً كل بضع سنوات، إلى صندوق الانتخاب أو الاستفتاء. وهو ما سماه جوزيف شومبيتر "الديمقراطية النخبوية".
لكن صعود الحركات الشعبوية الديمقراطية (من اليسار) وغير الديمقراطية (من اليمين) يخيف النخب. وما أسرع ما أن تتخلى هذه النخب عن تمسّكها بالديمقراطية، فهي ترى في نفسها العقلانية والاعتدال. في حين أنها ترى في الجماهير الانفعال والتطرّف. تعرف النخب مصلحة الجماهير أكثر من الجماهير نفسها، وفقاً لهذا المنطق. هذه النخب التي قادت دولها إلى الحروب المدمرة وإلى النيوليبرالية الشرسة التي أدت إلى إفقار الفقراء وإغناء الأغنياء وازدياد الفوارق الطبقية وخصخصة التعليم العالي، وتفكيك دولة الرفاه الاجتماعي. وذلك كله باسم مصلحة الجماهير التي هي في الحقيقة مصلحة الطبقات العليا الحاكمة. هل من عجبٍ بعد ذلك أن يستجيب بعض الناس للشعبوية اليمينية التي تقدّم إجاباتٍ بسيطة للبؤس الشعبي: على شاكلة المهاجرين والاتحاد الأوروبي؟
رد فعل النخب على التصويت الشعبي لا يزيد الاغتراب إلا اغتراباً، فمع ظهور نتائج الاستفتاء البريطاني، بدأ الحديث سريعاً عن عدم إلزامية الاستفتاء من ناحية قانونية، أو عن ضرورة إجراء استفتاءٍ ثان، أو إجراء انتخاباتٍ سريعة، أو الحاجة لتصويت برلماني مكمّل للاستفتاء، وكلها ادعاءات لتبرير تجاوز الإرادة الشعبية.
أما في حزب العمال، فالعداء لكوربين، بسبب مواقفه اليسارية والراديكالية، مثير للدهشة في 
صفاقته وعلانيته، فقبل انتخابه، كتب المنظر السياسي ورئيس قسم العلوم السياسية في جامعة كامبريدج، دافيد رانسيمان، في المجلة التقدمية لندن ريفيو أوف بوكس (بتاريخ 27 أغسطس/ آب 2015) عن ضرورة تزوير الانتخابات، على ضوء توقع فوز كوربين. ومنذ فوز كوربين والإعلام البريطاني، حتى المعروف سابقاً بيساريته، مثل صحيفة الغارديان، يناصبه العداء في كل خطوة. وقام أعضاء حزبه (خصوصاً بقايا "العمال الجديد" أو الطريق الثالث بين اليسار واليمين، بقيادة توني بلير) بمحاولة إفشاله والتمرّد عليه، فعارضوه بما يتعلق بشن حملةٍ جويةٍ على سورية وعارضوه بما يتعلق بالغواصات النووية. وادعوا، منذ اليوم الأول، أنه "منعدم القابلية الانتخابية"، متناسين أنهم خسروا الانتخابات، في السنوات الأخيرة، بفارق كبير بقيادة آخرين. ومتجاهلين أنهم كلما قالوا عنه ذلك، انتشرت عنه تلك السمعة. وقالوا عنه إنه فاشل كقيادي، متجاهلين أنهم هم الذين سعوا إلى عرقلته في كل خطوة. وقالوا عنه إنه غير قادر على توحيد الحزب، في الوقت الذي تمرّدوا عليه. وقالوا إنه مثالي، في وقتٍ حاول هو فيه جاداً التصرّف ببراغماتية واحتواءهم بالتعيينات أو بحرية التصويت، أو بتعديل بعض مواقفه.
إذا، كلها ادعاءات غير مقنعة من النخب البرلمانية والبيروقراطية الحزبية، لتبرير عدم القبول بقرار أعضاء حزب العمال العاديين الذين منحوا ثقتهم لكوربين، قبل فترة وجيزة، بأغلبية ساحقةٍ، لم نشهد لها نظيراً في تاريخ الأحزاب السياسية البريطانية. إذا نجحت محاولة ممثلي الحزب البرلمانيين بالانقلاب على جيريمي كوربين، سيكون ذلك تعبيراً جديداً عن ازدراء النخب للديمقراطية والجماهير. وسيكون ذلك سبباً جديداً للعزوف عن السياسة عند الجماهير والشباب.
ملخص القول أن النخب تحب الديمقراطية شعاراً لا ممارسة. وليست هذه المشاهد والممارسات غريبة عنا في العالم العربي، فمع تقدم الجماهير إلى مقدمة المشهد التاريخي في الثورات العربية، قامت النخب والبيروقراطيات والجيوش بكل جهدٍ لقمع الإرادة الشعبية وإعادة المارد إلى القمقم. ولكن، هذا حديث آخر.