الإعلام العربي والاستفتاء البريطاني

الإعلام العربي والاستفتاء البريطاني

14 يوليو 2016
+ الخط -
تكشف متابعة نتائج الاستفتاء البريطاني، على بقاء بريطانيا في الاتحاد الأوروبي أو خروجها منه، مواقف بعض الإعلاميين العرب من أنماط التحوُّل والتغيُّر التي تعرفها أوروبا ويعرفها العالم. إنها مرآة تعين كيفيات معالجة الإعلام العربي لقضايا تخص أصحابها، وتخصّنا بصورةٍ أو بأخرى أيضاً. وهي مرآة تضيء جوانب من الحدث الذي تفكّر فيه، وتضيء، في الوقت نفسه، جوانب من كيفيات تعاملنا مع ما يجري في العالم ظواهر وتحوُّلات.
إذا كان من المؤكد، أن الاستفتاء البريطاني أثار ويُثِير ردود فعل متناقضة، سواء في الغرب أو في باقي أنحاء العالم، فإن ردود فعل الإعلام العربي مالت، في أغلبها، إلى الحديث عن بداية "انهيار الاتحاد الأوروبي"، واعتبر بعضها الآخر أن المسألة تتعلق بمسألة "انتحار"، وتراجعٍ سيصيب أهله بخسرانٍ كثير.
انخرط إعلاميون عرب كثيرون في إبراز أسباب رغبة البريطانيين في الخروج من الاتحاد الأوروبي، محاولين توضيح دوافع اقتصادية وسياسية أدَّت إلى النتيجة المعروفة، والتَّداعيات المفترض أن تترتَّب عنها في الاتحاد. نعرف حدود ارتباط بريطانيا بالاتحاد الأوروبي، ونوع الخصوصية التي تتمتَّع بها داخل دواليب الاتحاد ومؤسساته، فقد اختارت أن لا تكون عضواً في مؤسسة مَاسْتْرِيخْت، حيث لم تلتزم بوحدة النقد الأوروبية، وتَحَفَّظَت على فضاء شنغن، كما تحفَّظت على بنودٍ كثيرة في الدستور الأوروبي، إلاّ أنها ظلت، على الرغم من كل ما سبق، جزءاً من الاتحاد، وثاني قوة اقتصادية بعد ألمانيا داخل منظومته الاقتصادية.
يبدو أن أهم الدروس التي يمكن استخلاصها عربياً من السِّجَالات التي أثارها الاستفتاء المذكور تتمثَّل، أولاً، في ضرورة تجاوز النظر إلى خروج بريطانيا من الاتحاد بمنطق الإيجاب وحده، واستخدام الطرق الأخرى للتفكير في تحوُّلات الاتحاد من الداخل، فقد تسمح أوليات التفكير فيه بمنطق السَّلب، بتركيب أسئلةٍ تُمَكِّنُنَا من النظر إلى موضوع الاستفتاء بطريقةٍ مختلفةٍ عن المواقف التي عُمِّمت بعد الاستفتاء، حيث يمكن أن نتساءل، مثلاً، ألا يساهم فعل الاستفتاء البريطاني، المرتبط، في جوهره، بجملةٍ من السياقات السياسية المحلية والأوروبية والدولية، في تطوير مكوِّنات الاتحاد؟ ألا يساهم إعلان مشروع الخروج البريطاني من الاتحاد في تقوية أواصره وتعزيزها؟ نطرح هذه الأسئلة، ونحن نعي جيداً أن مسطرة الخروج تخضع لآليات مُحَدَّدَة، وتُقَنِّنُها إجراءات واضحةٌ ومنصوصٌ عليها في القانون الداخلي للاتحاد.
يمكن أن يُقْرَأ، إذن، الاستفتاء البريطاني في إطار التفكير في تحصين الاتحاد، حيث ينبغي
النَّظَر إلى المكاسب والمنجزات والعوائق والصعوبات، من أجل إبراز قوتها وآثارها الإيجابية في مُقابِل الخيارات التي تظهرها النُّزُوعَات الجديدة التي تميل، اليوم، إلى الدفاع عن القوميات الأوروبية، بروحٍ تتخذ، في أغلبها، مَنْحىً عرقياً، وتستخدم تعبيراتٍ تَرُوم التحصُّن مجدَّداً بالقوميات والهويات التي تنتصر لإنعاشها القوى اليمينية المتطرفة، الأمر الذي يتضمن تراجُعاً كثيراً عن تاريخٍ من البناء والتعاوُن والتَّسَاكُن، وبناء مقوِّمات المستقبل المشترك، تاريخ الاتحاد الذي يظهر مزايا الوحدة ومآثرها، مكاسبها ومآزقها..
يتعلق الأمر الثاني في موضوع الاستفتاء البريطاني بصعوبة ضبط العلاقات الدولية وتقنينها، والعلاقات داخل بلدان الاتحاد، حيث تناست تعليقاتٌ كثيرة صعوبة الموضوع، وتشابُك مكوِّناته، ذلك أنه، مهما تحدثنا عن الطابع الحسابي والمصلَحي والتاريخي في العلاقات الدولية، وبين دول الاتحاد ومؤسساته وأنظمته، تظل هناك مساحات وثقوب عَصِيَّة على التدقيق الحسابي والبعد المصلحي.
يندرج ضبط العلاقات الدولية والعلاقات بين دول الاتحاد الأوروبي وتدبيرها ضمن ما هو نسبي ومركَّب في العلاقات السياسية، وتَكْوِينُ المجموعات السياسية يتمتع أيضاً بكثير من النسبية، وإلاَّ كيف يُعْقَل أن يتسع الاتحاد من 14 دولة إلى 25، وذلك بِضَمِّ كثير من دول أوروبا الوسطى والشرقية، ونقول بعد ذلك، إن نتائج الاستفتاء تُعَبِّر عن رفض البريطانيين سياسات الهجرة بين أبناء الاتحاد، ذلك أن توسيع رُقْعَة الاتحاد يستوعب حرية الحركة في الجغرافية الأوروبية، كما يتضمن حرية الحركة في فضاء السوق الأوروبية.
يُمكن أن نشير، في السياق نفسه، إلى أن مواقف بريطانيا من استقبال المُهَجَّرِين من المشرق العربي إلى بلدان الاتحاد ترتبط، قبل ذلك، بمواقف الاتحاد ومواقف الدول الأوروبية من كل ما جرى ويجري في العراق، وسورية، وليبيا، فلدولٍ كثيرة في الاتحاد مواقف مُعْلَنَة من الزوابع التي حصلت وتحصل في الدول المذكورة، ولا يمكن أن نتحدث اليوم عن فُلُول المُهَجَّرِين، ونتناسَى أدْوَار الاتحاد وَدوله، وفي مقدمتها بريطانيا، في ملابسات الحروب القائمة في مجتمعاتٍ عربية كثيرة.
C0DB4251-3777-48D1-B7F6-C33C00C7DAEB
كمال عبد اللطيف

محاضر في جامعات ومؤسسات بحث في المغرب وخارجه، عضو في لجان جوائز ثقافية في مراكز بحث وجامعات عربية. يساهم في الكتابة والتدريس الجامعي منذ السبعينيات، من مؤلفاته "درس العروي، في الدفاع عن الحداثة والتاريخ" و"الثورات العربية، تحديات جديدة ومعارك مرتقبة".