الحرب في جنوب السودان... الدلالة والمعنى

الحرب في جنوب السودان... الدلالة والمعنى

13 يوليو 2016

نازحون من جنوب السودان إلى مدينة واو (3 يوليو/2016/Getty)

+ الخط -
يمكن أن يكون الصراع والقتال الدائر في دولة جنوب السودان مثالاً على "الدولة" غير المُسوَّغة، أو الناضجةِ الأسباب، وهذا يستدعي التقسيمات المحتملة في البلاد العربية، كما يستدعي من جهة أخرى: كيف لا تصرّ أميركا والدول الغربية على تحقيق "دولة" في فلسطين، أو في ما يتبقّى منها، هذا إذا تبقّى، كما أصرّت، وفعلت في السودان.
كان انفصال جنوب السودان عن الدولة الأمّ في يوليو/ تموز 2011 عقب استفتاء شعبيٍّ مؤشِّراً إلى ما يمكن أن يحدث في المنطقة العربية، من انفصالات وانقسامات تسمح بنشوء دول، أو كيانات جديدة، على أُسُسٍ عِرقية، أو طائفية، أو دينية، أو جهوية.
كما في العراق: دولة كردية في شماله، وسُنِّية في وسطه، وشيعيّة في جنوبه، كما صرّح، مراتٍ، مسؤولون أميركيون، ومن ذلك ما قاله رئيس الأركان الأميركي، المنتهية ولايته، الجنرال ريموند أوديرنو، "إنّ تحقيق مشروع المصالحة بين الشيعة والسنة في العراق لا ينفكّ يزداد صعوبة"، معتبراً أنَّ "تقسيم هذا البلد" ربما يكون الحلَّ الوحيد "لتسوية النزاع الطائفي الذي يمزِّقه".
وليس هذا التفكير فردياً، أو هامشياً، لدى صُنَّاع السياسة الاستراتجية في واشنطن، فقد ارتآها قسمٌ منهم ومن الباحثين والسياسيين، لعل مِن أبرزهم وزيرُ الخارجية الأسبق، هنري كيسنجر، الذي دعا إلى تقسيم العراق إلى ثلاثة كيانات: كردية في الشمال وسنية في الوسط، وشيعية في الجنوب. وممّا يُرجّح أن هذا التوجُّه هو توجُّه الولايات المتحدة، أنَّ الدستور الذي أشرف على وضعه الحاكم الأميركي السابق في العراق، بول بريمر، لبلاد الرافدين طائفي يؤسِّس، ويمهِّد، لهذا التقسيم، بإقراره المحاصصة الطائفية، ثم سيرورة الأوضاع في العراق إلى ترسيخ البعد الطائفي، من خلال هيمنة النفوذ الإيراني، واستئثار الموالين لها بالسلطة والأمن في بغداد.
وكان العامل المهمين في مجمل السياسات الأميركية تجاه العراق هو تحقيق المصالح الأميركية، خصوصاً، كما صرّح وزير خارجيتها الأسبق، كولن باول، في شهادة أمام الكونغرس، بقوله: "الهدف ‏من احتلال العراق هو إعادة صياغته بما يخدم مصالح الولايات المتحدة ‏الأميركية في المنطقة والعالم".
أما التقسيم الديني، مثلاً، فتمثل في دعوة مصريين أقباط، ولاسيما أقباط المهجر، إلى دولة للأقباط مستقلة عن مصر.
وجِهويًّا، نستذكر اليمن وتوجُّهات الانفصال بين الجنوب والشمال، وتالياً ليبيا، حيث تنامت أفكار ودعواتٌ إلى تقسيم ليبيا، وفق ما نشرت صحيفة إيل جورنالي الإيطالية، أخيراً، تقريراً (نشرت "العربي الجديد" بعض ما جاء فيه)، عن رغبة دول كبرى في الانتقال، بحسب ما وصفته، "إلى المرحلة الثانية من خططها حيال ليبيا"، بعد فشل محاولاتها لتوحيد فرقاء البلاد ضمن حكومة وحدةٍ وطنية. ووفقاً لتقرير الصحيفة، تتجه المرحلة الجديدة إلى تقسيم ليبيا إلى ثلاث دويلات، غرباً وشرقاً وجنوباً.
بالطبع، لهذه الدعوات، أو التوقُّعات، أسباب، مِن أهمِّها إخفاقُ الدولة القُطرية في تحقيق آمال الشعوب، والمواطنين فيها، أو مَن يفترض أنهم مواطنون، وكذلك، إخفاقها في صهرهم في بوتقتها، مع العلم أنَّ التجارِب المشتركة التي خاضتها معظمُ هذه الشعوب في أثناء مرحلة التحرُّر من الاستعمار كانت كفيلةً في توطيد دعائم الروح الوطنية، وقد فعلت.
واستطاعت الرابطة الوطنية القُطرية أن تحقِّق نجاحاً ملحوظاً، لم تقوَ على تجاهله حتى
المنظومات، أو الهُويَّات الأوسع، مِن قبيل الإسلام (السياسي) والقومية (السياسية)، فغالبية الحركات الإسلامية السياسية تأطَّرت بالإطار الوطني، ولو أنها أبقَتْ على روابط دينية وعاطفية مع المسلمين خارج أوطانها. أما القومية السياسية فهي كذلك لم تنجح في تذويب الحدود الوطنية التي لم تكن فقط مَحْميَّة، أو مَرْعيّة من الدول، بل من قسم كبير من الشعوب. وهنا نستذكر الوحدة بين مصر وسورية ( 1958-1961)، حيث لم تدم أكثر من ثلاث سنوات. (!) وليس هنا مجال البحث التفصيلي في أسباب ذاك الانهيار السريع، لكنه مؤشِّر على ضعف العوامل القومية، أو عدم نضجها، واقعياً وسياسياً، فإذا كانت بين دولتين لم تنجح؛ فكيف تنجح وتقوى على التوسُّع؛ لتشمل، وتصهر سائر العرب ودولهم، من المحيط إلى الخليج؟!
صحيح أن ثمَّة اتحادات قامت، كجامعة الدول العربية، وغيرها، لكنها لم تكن هي المأمولة قومياً، حتى إن هذه الجامعة تكاد تكون المانعة للوحدة الحقيقية، أو إنها الحارسة لـ (استقلال) الأقطار العربية، حيث ينصّ ميثاقها، في مادته الثانية، على أنَّ: "الغَرَض من الجامعة توثيق الصلات بين الدول المشتركة فيها، وتنسيق خططها السياسية، تحقيقاً للتعاون بينها وصيانةً لاستقلالها وسيادتها، والنظر بصفة عامة في شؤون البلاد العربية ومصالحها"؛ فلا غرض لها، كمؤسسةٍ جامعةٍ للدول العربية، في توحيدها، حتى كهدف نهائي، بل الغرض هو صيانة استقلالها، ومفهوم الاستقلال يشمل، طبعاً، استقلالها عن بعضها بعضاً.
تحتاج الدول حتى تكون، وتنشأ، إلى إرادة زعماء قوية، وأحياناً تفرض فرضاً. لكن، ليس بالقوة فقط تقام الدول وتبقى، ولا سيما في منطقة مشحونةٍ بالإرث التاريخي والصراعات، وفي منطقةٍ لا تزال محلَّ تجاذبات دولية وتنافسات على النفوذ والمصالح الاقتصادية والاستراتيجية. فقد كان جمال عبدالناصر يتوفر على الزعامة الكاريزمية، فهذا العنصر توفَّر، لكن عوامل أخرى لا بدَّ أن تتوفر معه، وبعْدَه، وتستمر، وتُرعَى، مِن قبيل الروح القومية، والثقافة القومية المشتركة، والاشتباك مع أعداء الأمة التي تكوّنت اشتباكاً ناجحاً، أو على الأقل غيرَ مُحبِط.
لكن الدولة القُطرية، على الرغم من نجاحها النسبي، بالقياس إلى المشروعات البديلة، كالإسلامية والقومية، لم تستطع الصمود أمام استحقاقات التغيير، إذ لم تكن دولةً وطنيةً بالمعنى الحقيقي، بقدر ما كانت، أو أضحت، في كثير من حالاتها، أداةً قاهرةً، لتحقيق المكاسب للحكام، وأوساطهم، وحرمان سائر المواطنين، من حقوقهم الطبيعية؛ فكان اهتزازُها، وخلخلةُ أساساتها، عاملاً مساعداً، ليس فقط، لتغيير الحكومات. ولكن، لاستيقاظ دعوات للاستقلال على أُسسٍ غير وطنية، إنما عرقية، أو دينية، أو جهوية.
وفي مقابل الإرادة الدولية التي عملت على توليد دولة جنوب السودان، ولو ولادة قيصرية، لا ترتقي الدولة الفلسطينية على ما تبقَّى من أرض فلسطين المحتلة، إلى مستوى الأهداف الأميركية الجِديَّة، إذ تترك واشنطن هذا الهدف الذي أصبح أشبه بالحلم، يتلاشى، تحت طرقات الاحتلال المتوالية، بسحب الأرض من تحت قدميه، بالمستوطنات التي تقطِّع أوصال الأراضي المحتلة، بعد عام 1967.
على الرغم من أن استمرار هذا الصراع في فلسطين مع إسرائيل أكثر خطورةً على أمن المنطقة والإقليم وسلامِه، بل وعلى السلام العالمي، لكن استضعاف نظام الرئيس السوداني، عمر البشير، والسودان عموماً، شجَّع أميركا والدول الغربية الفاعلة، على تقسيم السودان، وتوليد دولة في جنوبه، لم تكن الحلّ، لأهل الجنوب، أنفسهم، كما اتضح، ويتضح الآن. أما في فلسطين، حيث عقدةُ الأمن الإسرائيلية هاجس راسخ، وأحياناً ذريعة ناجحة في الاشتراطات التعجيزيَّة، فلا دولة، حتى منزوعة السلاح.
فهذه دولة جنوب السودان التي لم تنتظر إلا سنة، بعد الاستقلال، حتى تندلع فيها حربٌ أهلية، وتقف الآن على شفير حربٍ جديدة، ليست وحدها المصابة بهشاشة التكوين الاجتماعي والسياسي، وها نحن نشهد صراعاً شيعيًّا شيعيًّا في العراق، وكذلك الأكراد، لا يخلو تاريخُهم الحديث من صراعات دموية، فأقلّ ما يقال، هنا، أنّ إنشاء الدول ليس أمراً اصطناعياً يأتي بإرادات فَوقيَّة، أو برعايةٍ، وفق أجندات دولية خالصة، وأنّ التعجّل في ذلك، وتبسيط الواقع العربي والإقليمي الذي أصبح أكثر تداخلاً وتعقيداً ليس من المسؤولية السياسية، أو من علامات بُعْد النظر، فالبناء يلزمه ما هو أكثر من الهدم.