تونس ومعضلة العائدين من بؤر التوتر

تونس ومعضلة العائدين من بؤر التوتر

08 يونيو 2016
+ الخط -
تفيد تقارير متواترة بأنّ عدد التونسيين الذين غادروا البلاد، ليلتحقوا ببؤر التوتر يقدّر بالآلاف، وانضمّ معظمهم إلى معسكرات تنظيمات جهاديّة متطرّفة، في مقدّمتها تنظيم الدولة الإسلاميّة (داعش). ومع احتمال تراجع وتيرة الحرب في سورية والعراق، وبروز بوادر توجّه نحو بلورة حلّ سياسي توافقي للأزمة في ليبيا، يبدو مصير المقاتلين الأجانب بعد هدأة الصّراع أو نهايته، غامضاً. ومن غير المستبعد أن يفكّر بعضهم في العوْدة طوعاً إلى بلدانهم الأصليّة، أو أن يتم ترحيلهم من السلطات الحاكمة، ليعودوا أدراجهم من حيث أتوا.
ومعلوم أن عودة مئات من المتشدّدين الذين سكنهم الفكر المتطرّف، وتملّكهم العقل الإقصائي، والسلوك العنيف، يمثّل تحدّياً كبيراً بالنسبة لبلدانهم التي ستستقبلهم، بعد أن هجروها. ومدار الإشكال، هنا، متمثّل في أنّ معظم الشباب الذين غادروا تونس نحو بؤر التوتر تركوا البلاد، وفي نفوسهم نقمة على نظامها السّياسي، وجهازها الإداري، ونمط الحياة المفتوح فيها، وهم شدّوا الرّحال إلى سرت أو الرقّة أو الموصل أو غيرها، بحثاً عن نموذج نمطي لخلافة إسلامية أحاديّة/ مغلقة، يرون الانتماء إليها من تمام الدين، والنفير في سبيلها واجباً لا مهرب منه، ولا محيص عنه. ومن ثمّة، عمليّة إدماجهم من جديد في المجتمع التونسي تبدو أمراً في غاية من الصعوبة. والواقع أنّ عودة هؤلاء إلى البلاد، على الرغم من أهميّتها في مستوى ما يمكن أن يقدّموه من معلوماتٍ إلى الجهات الاستخبارية/ الأمنيّة، تتّصل بمسالك مغادرتهم البلاد، وكيّفيات استقطابهم، ومسارب تمويلهم ومعسكرات تدريبهم، فإنّها تثير عدّة إشكاليّات تتعلّق بمعايير التعامل معهم، وطرق التعاطي مع ملفّاتهم تحت طائلة ارتكابهم أعمال عنف وترهيب خارج تونس. وهو ما يقتضي توفّر مؤيّدات كثيرة، والإثباتات التي قد تحضر وقد تغيب. ما يجعل محاكمتهم محاكمةً عادلةً تحدياً في حدّ ذاته، يقتضي تدقيق وتحقيق كثير قصد استجماع عناصر الإدانة، وتثبيت تهمة الإرهاب في المعنيين بالأمر. كما أنّ الزجّ بمن ثبُتت إدانتهم في السّجون قد يزيد من تطرّفهم ونقمتهم على الدولة والمجتمع. وقد يوفّر لهم فضاء جديداً لممارسة الدّيماغوجيا، واستقطاب معجبين جدد بالفكر المتطرّف من بين سجناء قضايا الحق العام الذين كثيراً ما يستغلّ المتشدّدون هشاشة وضعهم النفسي، واستياءهم من السلطة الأمنية، ليؤجّجوا لديهم هاجس الكراهيّة، ونوازع النقمة على النظام الحاكم، والميل إلى السلوك العنيف، والخروج على مؤسّسات الدولة، فيصبح السجن، بما فيه من كبت وردع وتضييق على الحريّة، وبما فيه من تفاعل بين دعاة التطرّف وبقيّة السجناء، أرضا خصبة منتجة للمزيد من ضحايا التعصّب.
أمّا الركون إلى المقاربة الأمنيّة القائمة على اتخاذ تدابير رقابيّة، وفرض متابعة إداريّة
ومحاصرة لصيقة على الوافدين من مناطق التوتّر، فيشكّل عبئاً على الجهاز الأمني التونسي الذي سيجد صعوبةً في متابعة مئات العناصر المصنّفين خطرين. كما أنّ ذلك يساهم في تشتيت جهود القوّات الأمنيّة، ذات المهام المتعدّدة، ويكلّف الدولة نفقاتٍ هائلة. يضاف إلى ذلك أن سياسة عزل العائدين ومحاصرتهم والإمعان في معاقبتهم يزيد من غربتهم داخل المجتمع، ويؤصّل فيهم النفور من مؤسّسات الدولة، ويجعلهم يعتبرون الإجراءات الوقائيّة التي تتخذها السلطات الأمنيّة شكلاً من أشكال التشفّي، وهو ما يعزّز هاجس التطرّف والكراهيّة عندهم.
وبناء عليه، فمن المفيد تبنّي مقاربة تفهميّة شموليّة لمشكلة العائدين من بؤر التوتر، فمن المهمّ بمكان البحث بصفةٍ موضوعيّةٍ في أسباب انبتاتهم عن النسيج المجتمعي التونسي وانضمامهم إلى تنظيماتٍ إرهابيّة. ومن المهمّ الاستماع إليهم، والوعي بمدى إدراكهم خطورة ما أقدموا عليه، ومدى استعدادهم للقطع مع سالف سيرتهم، والانتماء من جديد إلى دولة يحكمها الدّستور والنظام الجمهوري. وتقتضي المقاربة التفهميّة التركيز على الجانب الإصلاحي، التوعوي، وإعادة بناء تفكير العائدين من بؤر التوتر، ومرافقتهم نفسيّا، وثقافيّاً، ودينيّاً، واجتماعيّاً. وذلك ببعث مراكز إدماج وتأهيل يتم توجيههم لقضاء مدّة محكوميّتهم فيها، ويتم تكليف علماء دين مشهود لهم بالكفاءة، ومختصين في علم الاجتماع، وعلم النفس، وبيداغوجيا الإدماج والتواصل، ليشرفوا على محاورتهم، وتوجيه النصح والإرشاد لهم، وإقناعهم بفساد الغلوّ ومساوئ العنف ومخاطر الإقصاء، مع العمل على تدريبهم على إدراك فقه التعايش، وثقافة التسامح وسلوك الاعتدال. عسى أن يتصالحوا مع دينهم وهويّتهم العربيّة التونسية المنفتحة، ويعطفوا القلوب على أنفسهم، وعلى مجتمعهم. أمّا الاقتصار على المعالجة الأمنية/ العقابيّة لمشكلة العائدين من بؤر التوتّر، فلن يساهم في حلّ المعضلة من جذورها، بل سيزيد من تفريخ المتشدّدين، لا محالة.
511AC165-C038-4A2F-8C46-0930BBB64EBE
أنور الجمعاوي

أستاذ وباحث جامعي تونسي، فاز بالجائزة العربيّة للعلوم الاجتماعيّة والإنسانيّة لتشجيع البحث العلمي (فئة الشباب) من المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات. له عدة أبحاث وكتب.