فرنسا: قانون العمل لا يرضي أحداً

فرنسا: قانون العمل لا يرضي أحداً

04 يونيو 2016

مظاهرة في مدينة ليل ضد قانون العمل (2يونيو/2016/Getty)

+ الخط -
على الرغم من حالة الانسداد الاجتماعي في فرنسا، وحتى السياسي، بسبب الاستقطاب الذي أحدثه داخل صفوف الحكومة اليسارية، فإن الأخيرة مصرّة، على الرغم من ذلك، على المضي به، فأغلبية الفرنسيين تطالب بسحبه نهائياً، ويتظاهر بعضهم، في مختلف المدن، للتعبير على غضبهم من الحكومة، حيث شهدت المظاهرات، في الأيام الأخيرة، تصعيداً كبيراً يهدّد بشلل البلاد، مع إعلان نقابات عديدة عن يوم تعبئة وطنية عامة الأسبوع المقبل. وقد تسببت المظاهرات، لا سيما الخاصة بتطويق مصافي النفط، ومنه أي حركة منها وإليها في أزمة في الإمداد بالبنزين، بمختلف أنواعه، في عدة مناطق في البلاد، وشل العمل في بعض محطات توليد الكهرباء، كما تسبب في شل حركة ناقلات النفط في الموانئ الفرنسية.
على الرغم من مخاطر خنق اقتصاد البلاد، بشكل يشبه الإضرابات والظاهرات العامة لنهاية 1995، فإن الحكومة تدافع على القانون، وتريد تمريره، مهما كان الأمر، متجاوزة البرلمان، بممارسة السلطات التي يخولها لها الدستور بتمرير القانون، من دون تصويت البرلمان، إن لم يتم إيداع إجراء سحب الثقة من الحكومة خلال الأربع عشرين ساعة التالية.
بغض النظر عن هذه الآلية التي تسمح للحكومة بتبني القانون، على الرغم من معارضة جزء من نواب الأغلبية، فضلاً عن معارضة نواب المعارضة، فإن المشكلة في هذا القانون أنه لم يعد يرضي أحداً، لا العمال، ولا أرباب العمل، ولا كل نواب الأغلبية ولا نواب المعارضة. في نسخته الأولى، استجاب القانون لبعض مطالب أرباب العمل، بتبسيط شروط تسريح العمال وتخفيض سقف بعض التعويضات ومنح الأولوية للتفاوض بين العمال وأرباب العمل على القانون (القانون الحالي يمنح الأولوية للقاعدة القانونية). ويرى أرباب العمل أن قواعد قانون العمال الساري المفعول حالياً معقدة للغاية ومكلفة، وهي السبب في تردّد (بل ورفض) المؤسسات توظيف عمال جدد، لأن تسريحهم معقد، ويكلفها مالاً كثيراً. لذا، طالب هؤلاء بمرونة تامة في التوظيف والتسريح. وعليه، أعلنوا دعمهم القانون، مطالبين الحكومة بمقاومة الضغوط، وتبنيه كما هو، لأنه يسير، حسبهم، في الاتجاه الصحيح، على الرغم من نقائصه.
لكن هذه النسخة لم تستجيب لمطالب النقابات والعمال الذين يتهمون الحكومة بمواصلة تقديم تنازلات لأرباب العمل على حساب العمال. ويرى هؤلاء أن حذف الضمانات التي يتمتع بها العمال تُضعف من موقفهم، وتجعلهم تحت رحمة أرباب العمل، ما يجبرهم إما على قبول رواتب ضئيلة أو التخلي عن عملهم، من دون تعويضات تذكر. ونزولاً عند رغبة هؤلاء، بعد المظاهرات التعبوية الأولى، عدّلت الحكومة بعض جوانب قانونها، مثل المتعلقة بالتعويضات بعد التسريح، في حالة المرور عبر قضاء العمل... إلا أن العمال والطلبة واصلوا احتجاجاتهم، مطالبين بسحب القانون الذي يعتبرونه آليةً لإنهاء عقد العمل الدائم وتعميم العقود المؤقتة. وقد جعلت هذه التنازلات المحدودة التي لم تقنع العمال أرباب العمل ينقلبون على الحكومة، منددين برضوخ الحكومة للنقابات.
أما نواب اليسار الحاكم فقد انقسموا إلى مساند للقانون ومعارض له. ويرى المعارضون أنه
يأتي على الضمانات التي يتمتع بها العمال، ولا يمكن قبوله. ويرون أنه يتناقض تماماً والوعود التي على أساسها انتخب فرانسوا هولاند. لذا، يعتبرون القانون خيانةً، ليس فقط للناخبين الفرنسيين، بل لأفكار اليسار. وعلى الرغم من أنهم أقلية، إلا أنهم يتسببون في متاعب للحكومة، برفضهم التصويت على القانون، ومحاولتهم إيداع اقتراحٍ لحجب الثقة عنها (وإن لم ينجحوا).
أما المعارضة اليمينية الجمهورية فدعمت القانون في نسخته الأولى، مثلها مثل أرباب العمل، معتبرة أن النص خطوةٌ في الاتجاه الصحيح، على الرغم من محدودية إصلاحاته. إلا أنها انقلبت بدورها على القانون، بعد بعض التعديلات الطفيفة التي أدخلت عليه، مندّدة بتراجع الحكومة، وافتقارها الحكمة والحنكة السياسيتين. ومع تصاعد حدة الاحتجاجات ضد قانون العمل واتساع نطاقها، تحمّل المعارضة اليمينية الجمهورية الحكومة مسؤولية الانسداد في البلاد... من جهتهما، يعارض اليسار واليمين المتطرفان، ومنذ البداية، قانون العمل ويطالبون بسحبه نهائياً.
تدل الاحتجاجات والاستقطاب السياسي بشأن قانون العمل أن التوازن في مثل هذا القانون معضلة بكل المقاييس. فالحكومة تقول إن القانون متوازن، بينما ترى المعارضة اليمينية الجمهورية وأرباب العمل أنه فقد توازنه تماماً، بعد تعديلاته الطفيفة. فيما يعتبره جزء من اليسار الحاكم ومعظم النقابات والعمال غير متوازن أصلاً لذا يطالبون بسحبه نهائياً. وتتوعد النقابات الحكومة بإضراب عام مفتوح. هكذا خسرت الحكومة الجميع، وفي ظرف قصير، لكنها لا تزال تتمسك بقانونٍ تعارضه أغلبية الشعب، وأغلبية الطبقة السياسية، ولكن لدوافع مختلفة. والواضح أن الحكومة عازمةٌ على مواصلة المواجهة مع معارضي القانون، وهذا ما سيكلفها الكثير، لأن البلاد مقبلة على انتخابات رئاسيةٍ في أقل من سنة، ما يحدّ من حظوظ فرانسوا هولاند من الفوز بولايةٍ رئاسيةٍ ثانية. بصرف النظر عن مواقف ودوافع كل طرف في معركة قانون العمل، فإن الأخير يقوم على فلسفة صحيحة، لكنها تطبق في سياقٍ غير مناسب. وتكمن في محاولة إيجاد نوع من التوازن بين العامل ورب العمل في مجال التفاوض حول شروط عقد العمل، بمعنى استبدال القواعد القانونية ببنود عقد العمل بين الطرفين. وبالنظر إلى واقع سوق العمل الراهن في فرنسا، لا يمكن للعامل أن يتفاوض على عقد متوازن. وبالتالي، تفقد هذه الفلسفة معناها، إن هي طبقت في سياق اقتصادي نسبة النمو فيه ضعيفة للغاية (أقل من 1% حالياً). ومن ثم يمكن القول إن القانون خفض من الضمانات الممنوحة للعمال، وزاد من الضمانات الممنوحة لأرباب العمل، ما زاد سوق العمل توتراً وتعارضاً بين قطبيه الأساسيين: معظم النقابات (لا سيما الكونفدرالية العامة للعمل اليسارية التوجه والأكثر تشدداً في الاحتجاجات ضد قانون العمل) والعمال من جهة، وأرباب العمل من جهة ثانية.