رعب الاستفتاء البريطاني

رعب الاستفتاء البريطاني

23 يونيو 2016

بريطانيون يؤيدون البقاء في الاتحاد الأوروبي (20 يونيو/2016/Getty)

+ الخط -
تعيش المملكة المتحدة وأوروبا والغرب عموماً مرحلة من القلق البالغ خلال هذه الأيام، وحتى إعلان نتيجة الاستفتاء الذي تعقده بريطانيا اليوم (23 يونيو/حزيران الحالي) على بقائها في الاتحاد الأوروبي. فقد الإسترليني كل المكاسب الذي حققها منذ مارس/آذار الماضي، وتراجع إلى مستوياتٍ قياسية، وأصدرت أكبر المؤسسات المالية البريطانية تحذيراتٍ من مغبة التصويت بترك الاتحاد الأوروبي، واجتمعت قيادات حزبي العمال والمحافظين البريطانيين على رفض الخروج من الاتحاد، ومعهم يقف الرئيس الأميركي باراك أوباما والمستشارة الألمانية أنجيلا ميركل وقادة أكبر الدول الأوروبية. 
تحذر أكبر قيادات أوروبا، والغرب عموماً، من مغبة الاستفتاء، وتراه رجوعاً إلى الخلف، وإضعافاً لأوروبا وحلف الناتو وتقويةً لروسيا ودعوة إلى تفكّك الاتحاد الأوروبي وتراجع الديمقراطية في شرق أوروبا، بل أنه يهدد وحدة المملكة المتحدة، ويشجع اسكتلندا التي تشهد حركة استقلال قوية في الأعوام الأخيرة على تنظيم استفتاءٍ جديد للاستقلال عن بريطانيا، حيث يفضل الاسكتلنديون البقاء في الاتحاد الأوروبي. وعلى الرغم من ذلك، تشير استطلاعات الرأي البريطانية إلى تنافسٍ محموم بين معسكري البقاء في الاتحاد الأوروبي ومغادرته، وأن النتيجة لن تحسم إلا في صناديق الاقتراع، وأن معسكر مغادرة الاتحاد الأوروبي داخل بريطانيا لا يقل قوةً عن معسكر البقاء، وأنه يضم كثيرين من سكان إنجلترا خارج لندن.
وأمام هذه الصورة المعقدة، لابد وأن تسأل من يحرّك هؤلاء البريطانيين؟ فإذا كان أكبر قادة الحكومة والأحزاب البريطانية وأوروبا والغرب يرفضون مغادرة بريطانيا الاتحاد الأوروبي، ويحذّرون، بكل قوة، من تبعات الخروج، فلماذا ينمو معسكر المغادرة بهذه القوة، ومن يقوده ويحرّكه ضد كل هؤلاء؟
ولو دققنا في الصورة أكثر، فربما نجد أن المشهد في بريطانيا لا يختلف كثيراً عنه في الولايات المتحدة، فقد انتخب الجمهوريون، أخيراً، رجل الأعمال دونالد ترامب مرشحهم المفضل في الانتخابات الرئاسية الأميركية ضد رغبة قادة الحزب الجمهوري أنفسهم وتحذيرات العالم، وهو رجلٌ بلا خبرة سياسية، ويثير سخط قطاعات واسعة من النخب الغربية كلما تحدث، بل إن بعضهم يربط بين صعود ترامب وتقدم معسكر مغادرة بريطانيا الاتحاد الأوروبي، وهو المعسكر الذي يدعمه ترامب، ويرى آخرون أن تصويت بريطانيا للخروج من الاتحاد سيعطي دفعة لترامب، قد تقوده إلى الفوز في الانتخابات الرئاسية الأميركية.
وبالطبع، لا يقود ترامب معسكر مغادرة بريطانيا الاتحاد الأوروبي، ولم يشارك في بناء حركة الجماهير البريطانية الغاضبة الداعمة للمغادرة بالدرجة نفسها التي لم يشارك فيها في صناعة غضب الجمهوريين الذين انتخبوه مرشحاً رئاسياً، فترامب ليس أكثر من راكب موجة الغضب التي تعصف بأميركا وأوساط المحافظين بها. والأمر نفسه يتعلق بأشخاصٍ، مثل عمدة لندن السابق وعضو حزب المحافظين البريطاني، بوريس جونسون، وهو تقريباً أبرز الوجوه الداعمة لمعسكر المغادرة البريطاني. ويرى بعضهم أنه المستفيد الأكبر من مغادرة بريطانيا الاتحاد الأوروبي، فرئيس الوزراء البريطاني الحالي، ديفيد كاميرون، هو من يقود معسكر البقاء في الاتحاد، ويرى بعضهم أن خسارته في الاستفتاء ستحتم عليه الاستقالة من منصبه، ليفتح الباب أمام صعود قياداتٍ محافظةٍ جديدةٍ، تعبر عن إرادة معسكر المغادرة، وتفاوض أوروبا على شروط الانفصال.
أما سبب غضب البريطانيين المعلنة من أوروبا فهي عديدة، وفي مقدمتها خمس قضايا أساسية،
الهجرة والسيادة وتكاليف العضوية وترسانة القوانين والقواعد الأوروبية والأمن. فالاتحاد الأوروبي يسمح لأعضائه بالتنقل بحرية عبر دوله، ما سمح لحوالي 2.5 مليون أوروبي بالإقامة في بريطانيا بصفة دائمة. ويرى معسكر المغادرة أن هؤلاء المهاجرين يمثلون عبئاً هائلاً على موارد الدولة وثقافتها والخدمات والوظائف. هذا بالإضافة إلى الخوف من موجات اللاجئين، ومن احتمال دخول تركيا الاتحاد الأوروبي، بعدد سكانها الذي يقارب ثمانين مليون نسمة.
يرفع معسكر المغادرة شعارات السيادة والتفرّد البريطاني، ويرى أن القوانين والمحاكم والبرلمانات الأوروبية هي انتقاص من السيادة البريطانية، ومن إرادة المواطن البريطاني. وأنه في حالة خروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي، ستتمكن من إعادة صياغة علاقاتها بالعالم بالشكل المرضي لها، وبعيداً عن إملاءات أوروبا التي تتجه نحو مزيدٍ من الوحدة على المستويات كافة. ويقول معسكر المغادرة إن عضوية بريطانيا في الاتحاد الأوروبي تكلفها المليارات كل عام، ويردّد قادته مقولة إن بريطانيا تدفع أسبوعياً للاتحاد الأوروبي 350 مليون جنيه إسترليني، وهو رقم كافٍ لإصلاح خدمات ومرافق عديدة، ويشكّك معسكر البقاء في هذا الرقم.
ويقول معسكر المغادرة، أيضاً، إن أوروبا مليئة بالقوانين المقيدة للنمو الاقتصادي وللاتفاقات التجارية، فلديها معايير كثيرة تتعلق بالبيئة والتصنيع والصيد وقوانين حقوق الإنسان والاتفاقات الدولية، وهذا كله يحدّ من قدرة بريطانيا على الاستفادة من فرص النمو المتاحة. وأخيراً يقول هؤلاء إن الاتحاد الأوروبي يقيد يد السلطات الأمنية البريطانية في التعامل مع المجرمين، ويفتح أبوابها أمام اللاجئين والأجانب، بغض النظر عن خلفياتهم والتهديد الذي قد يمثله بعضهم.
في المقابل، يسوق معسكر البقاء عشرات الحجج المضادة، فأوروبا تستقبل أكثر من 40% من الصادرات البريطانية، والسوق الأوروبية هي الأكبر في العالم، ولو تركتها بريطانيا ستضطر للالتزام بقوانينها، لكي تتمكّن من التصدير إليها، وستعاني صادراتها من جمارك إضافية، وربما إجراءات عقابية، بعد خروجها عن الاتحاد. كما أن ترك الاتحاد الأوروبي سيمثل صدمة للاقتصاد البريطاني، فسيستغرق التفاوض على ترك الاتحاد بعد الاستفتاء عامين على أقل تقدير، سيحجم خلالهما مستثمرون دوليون كثيرون عن الاستثمار في بريطانيا، وستفكّر المؤسسات المالية الدولية، وخصوصاً الأوروبية منها) مرتين قبل الاستقرار في لندن عاصمة العالم المالية، وربما قرّرت الانتقال إلى أوروبا، لضمان الاستقرار. ويعتمد الاقتصاد البريطاني كثيراً على قطاع الخدمات المالية، وعلى سوقه المالية الواسعة، وسوق العقارات والسياحة، وكلها تعتمد على حرية الحركة التي تحميها الترتيبات القائمة، والتي سيقضي عليها التصويت بمغادرة الاتحاد.
ويقول معسكر البقاء أيضاً إن أوروبا واتفاقاتها المتعدّدة تسمح لبريطانيا بحماية مصالحها الاقتصادية وأمنها وسياستها، بشكل أكبر من بقائها منفردة، وأن بريطانيا في أوروبا أفضل لمصالح أميركا والغرب، فبريطانيا حلقة الصلة بين أميركا وأوروبا، وهي رأس حربة للرأسمالية والليبرالية والديمقراطية في الاتحاد الأوروبي ودول شرق أوروبا ضد المصالح الروسية.
وستحتاج بريطانيا سنواتٍ عديدةً لإعادة صياغة اتفاقات اقتصادية مع مختلف دول العالم، في حالة تركها الاتحاد الأوروبي، وستناقشها بريطانيا منفردةً، وليس كجزء من الاقتصاد الأوروبي الضخم. وعلى الرغم من كل التحذيرات، يقول معسكر المغادرة إنه لن يخضع للتخويف، وإن بريطانيا من أكبر دول العالم وأقواها اقتصادياً وسياسياً وعسكرياً، وإنها وريثة إمبراطورية عظمى، قادت العالم قروناً، وإن سيادة بريطانيا واستقلالها أهم من أي شيء. وفي النهاية، يرى محللون أن معسكر المغادرة مدفوع بالغضب على النخب السياسية المختلفة، تماماً مثل الجمهوريين الذين صوّتوا لترامب في الولايات المتحدة. يشعر البريطانيون الداعمون لمغادرة الاتحاد الأوربي بعدم الثقة في النخب السياسية، وأن مكانتهم الاقتصادية في تراجع، وأن الرأسمالية لم تخدم مصالحهم، بعد أن قللت الخدمات الحكومية، ونشرت الفقر في أوساطهم لصالح نخبٍ بريطانيةٍ وأوروبية ثرية، تحرّك أموالها بحريةٍ حول العالم.
وهكذا، يبدو الناخب البريطاني غاضباً بشدة، مستعدا لمعاقبة النخب السياسية، ولو عاقب نفسه معها. لذا، تحبس النخب البريطانية والأوروبية والغربية أنفاسها من الآن، وحتى إعلان نتيجة الاستفتاء مساء اليوم.