أوهام ... وحالة الإنكار

أوهام ... وحالة الإنكار

21 يونيو 2016

(Getty)

+ الخط -
جاء حوار مع أصحابٍ عن موضوع الاكتئاب الشديد الذي أصبح مرض العصر، وخصوصاً في عالمنا العربي، نتيجة الظروف القاسية والحروب والغلاء الفاحش، على أعراض الاكتئاب وتشخيصه وطرق علاجه، وقد أصبحت الأدوية المضادّة له والرافعة للمزاج من أكثر الأدوية انتشاراً واستعمالاً، حتى أن سكان دول أوروبية يتناولونها لتساعدهم على تحمل الطقس الثلجي ونقص تعرّضهم للشمس. قالت سيدة حلت مشكلة الاكتئاب إنه يزول تماماً باستعمال المسبحة، وأن يقتني المكتئب مسبحةً، يسبح بها، خصوصاً ليلاً قبل النوم. والغريب أن السيدة جامعية، ولم يعن لها شيئاً أنها رمت دفعة واحدة بالطب النفسي والتحليل النفسي وفرويد ويونغ والأدوية المضادة للاكتئاب، فالعلاج برأيها مجرد مسبحة. وهي مقتنعة تماماً بكلامها، وتنصح الجميع بتطبيقه، ضامنة لهم شفاء تاماً من الاكتئاب.
ليست تلك السيدة وحدها من تؤمن بهذه الأوهام، والتي تُسمى في الطب النفسي ظاهرة الإنكار، أي أن يُنكر الإنسان ظروفه والمشكلات التي يتعرّض لها، وينكر اكتئابه ومرضه، ولا يراجع طبيباً نفسانياً، ولا يتناول الأدوية اللازمة، بل يتعلق بوهمٍ يؤمن أنه حل لمشكلته واكتئاب. وبدت السيدة في راحةٍ نفسيةٍ تامة، لكن تلك الراحة نوع من الهروب، وليست راحة نفسية حقيقية. أعرف أن الإنسان يبذل جهداً ليدعم نفسه معنوياً، ويبحث عن أصدقاء يساندونه في ظروفه القاسية. لكن، يجب أولاً الاعتراف بالمشكلة، فالاكتئاب مرض العصر، وهو يحتاج للعلاج بالأدوية، مدةً معينةً حسب درجته، وبإشراف طبيب نفسي، وإلا تطور إلى اكتئابٍ خبيثٍ قد يؤدي إلى الانتحار.
ظاهرة الإنكار منتشرة، خصوصاً في مجتمعاتنا العربية المثقلة بالمشكلات والظروف القاسية، ويساعد عليها الجهل، والاعتقاد بالخرافات والأفكار الغريبة غير العلمية. وهناك أشخاص يفضلون أمان الوهم عن الحقيقة. وقد حدث أن مريضاً بالسكري أوقف تناول دواءه، لأنه سمع عن مزارٍ في قريةٍ معينةٍ، يشفي الأمراض كلها، حين يقصده المريض. ميل ناسٍ كثيرين إلى ظاهرة الإنكار، أو التعلق ببدائل للأدوية والعلم، دليل جهلٍ وتخلفٍ، ويتحمل الإعلام المكتوب والمرئي المسؤولية الأكبر في انتشار ظاهرة الإنكار والتعلق ببدائل وأفكار خاطئة، فكم نشاهد دعاياتٍ وبرامج على شاشة التلفاز عن دواءٍ ينقص الوزن عشرين كيلو غراماً في الشهر(!)، ويدعمون كلامهم بسيدةٍ ما قبل وما بعد إنقاص الوزن. وحتى أنهم ينصحون المشاهد بأنه يمكن أن ينقص وزنه باستعمال هذا الدواء، من دون أن يمارس الرياضة أو الحمية. وهذا مثال من مئات الدعايات التجارية التي لا يهمها سوى الربح، والتي تغذي الأوهام لدى المشاهد، وكم تسببت تلك الأدوية بكوارث من نقص شوارد الجسم ومعادنه، وكذلك الفيتامينات، وبعضها تسبب بالموت، لكن المشاهد تبهره الدعاية ويصبح عبداً لها. للأسف، تنقصنا البرامج العلمية، لتثقيف المشاهد، خصوصاً البرامج التي تهتم بالصحة النفسية للإنسان، فما زال كل شخص يعاني اكتئاباً أو مرضاً نفسياً يحس بالنقص والعار، ويخشى مراجعة طبيب نفسي، أو أنه يراجع هذا الطبيب سراً، لأن هناك خلطاً بين الجنون والمرض النفسي، من حالات ذهانٍ إلى اكتئاب.
الصحة النفسية أساس حياة الإنسان الطبيعية والعقل السليم في الجسم السليم، وأي خلل نفسي يؤثر عضوياً على صحة الجسم. أتمنى لو تكثر برامج التوعية، وتتكثف اللقاءات مع الأطباء النفسانيين، ليبيّنوا للناس أن النفس كالجسد تماماً، تتعب وتمرض وتحتاج عنايةً واستشارة طبية. ولعظيم الأسف، الاعتقاد بتلك الأفكار الخاطئة، من استعمال المسبحة لعلاج الاكتئاب إلى الذهاب عند الشيخ، لصنع حجابٍ إلى تناول أنواعٍ من الأعشاب بدائل للأدوية. ذلك كله يضر بالناس، ويتركهم في مستنقع الجهل. أساس بناء فكر سليم هو المنطق العلمي والفهم الصحيح لكل الظواهر والأمراض التي تتعرّض لها النفس البشرية، وما أكثرها في زمننا هذا، وخصوصاً في المناطق الملتهبة في عالمنا العربي، وعجز ناسٍ كثيرين عن تحمل وحشية الواقع، فيلجأون إلى إنكار ظروفهم، ويوهمون أنفسهم بأنهم بخير. ويلجأون إلى أساليب خرافية في علاج أزماتهم النفسية. العلم وحده والتفكير العلمي الصحيح المستند إلى الحقائق والدراسات هو حجر الأساس لبناء إنسانٍ سليم العقل والجسد.


831AB4A8-7164-4B0F-9374-6D4D6D79B9EE
هيفاء بيطار

كاتبة وأديبة سورية