محاولة في الاعتراف

محاولة في الاعتراف

02 يونيو 2016

(معمر مكي)

+ الخط -
ماذا لو كان صديقك اليومي الذي تحبّه جداً، وتأتمنه على أسرارك، ويحبّه أولادك، وزوجته صديقة زوجتك، وبيته قريب من بيتك، ماذا لو كان كاتباً فاشلاً، لا تحب نصوصه، بل ولم تحبها يوماً، هل يؤذي هذا صداقتكما؟ هل يوقفها أو يبردها؟ هل تقدر على مصارحة صديقك بأن نصوصه لا تروق لك؟ أو على الأقل أن مدرسته الأدبية تعودنا رؤية حياة الكتّاب العرب الشخصية على أنها شلة واحدة، يعجبون بكتابات بعضهم بعضاً، وتذوب فيهم، ومعهم، الصداقة مع أذواقهم الأدبية.
في تاريخ الأدب العربي، لم نعثر على صداقاتٍ قويةٍ صمدت أمام تعارض الأذواق الأدبية لأصحابها، فأن تكون صديقي يعني أن تحب (وتعجب) بنصوصي السابقة، والتي سأكتبها في المستقبل. وأن تكون عدوي الشخصي يعني أن تكره نصوصي، وتهاجمها باستمرار. لا علاقات بين أدبائنا للأسف خارج مسألة الإعجاب بالنصوص أو عدمه.
لا أدري إن كان هذا النوع من المعادلات والحسابات ديدن أدباء العالم أيضاً، ولا أعلم حقا هل تجري مسألة الصحبة هناك وفق عادة اللايك باللايك، وفق اللغة الفيسبوكية التي صارت وجهاً جديداً لشكل العلاقات الاجتماعية والثقافية في العالم. وفي "فيسبوك"، أخطر الواسائط الاجتماعية، تتجسّد بوضوح مرعب، معادلة: أكتب عني فأكتب عنك، أو حب نصي لأحب نصك، أو انبهر بي لأنبهر بك. صارت ثقافة تبادل الانبهار وجهاً للأدب الفيسبوكي وغير الفيسبوكي. علينا أن نعترف: تورّط معظمنا نحن، الفنانين والأدباء، في عيوب "فيسبوكية". ارتفعنا عنها، ثم عدنا إليها تحت ضغوط إغوائها. ننجح حيناً ونفشل حيناً. راقبوا أنفسكم: ما أن يكتب لنا شخص ما إحدى هذه الكلمات: "رائع جميل، الله، مدهش" تحت نصوصنا، حتى نفرح، فنصافح "لايكه" بـ"لايك" آخر، وننسى أننا أنفسنا من تذمّرنا سابقاً من هذه الكلمات السريعة والسهلة. قدرنا أن نحتار، ولا نستطيع أن نحسم، نقف خلف الباب ضائعين، نعرف أن في الداخل حباً وافراً، وإعجاباً كثيراً مرمياً في الطرقات كالمعاني، ونعرف أيضا أن خلف معظم هذا النوع من الحب ضياعاً للوقت وفراغاً ثقافياً، وهدرٌاً للطاقات الإبداعية، وتعكيراً لصفاء العزلة الحلوة. هكذا نظن، في البداية. لكن، ما إن ندخل بيوتنا الـ"فيسبوكية"، ونغلق خلفنا الأبواب والنوافذ، وننشغل بالكتابة ونغرق بالصمت حتى نتعب، ونئن مثل الذئاب من العزلة، فنحنّ إلى كلمة حب وعبارة حنان، فنفتح الباب والنوافذ، فينهمر الحب مدراراً، فنتذمر مثل الأطفال من كثافة هذا الحب، وكثرته وسهولته وخطورته على كرامة أثاث بيوتنا، فننكفئ على أنفسنا مرة أخرى.
أراقب نفسي على الـ"فيسبوك"، كل ليلة أجلد روحي، وأهنئها: متى لا أقع في نقاش مع شخص سخيفٍ لم يقرأ في حياته سوى كتاب واحد؟ متى أتورّط في التخلي عن جزيرتي الأثيرة، جزيرة "ربما"، وأنخرط في التشنج والانفعال والشتائم والصراخ والتأكيدات؟ متى أجعل أو أرفض أن أجعل من علاقة عاطفية "فيسبوكية" حاجزاً أمام نموي العقلي واتساع أفقي؟ متى أترفع عن الرضى الكامل عن نفسي، وأعجب بنصوصٍ كتبها أشخاصٌ لا أحبهم شخصياً؟ متى أسخر من نفسي، لأنها سقطت في سهولة الغزل العادي؟ متى أكون جميلاً وأحتفل بالنقد غير التجريحي الذي يكشف هبلي اللغوي وسطحية معانيّ وركاكة صوري؟ ومتى خجلتُ من صديقٍ لي كتب نصاً ضعيفاً، فأبديت إعجابي به؟ متى أكون نبيهاً وقوياً، فلا أسمح لمديحٍ مفرط، إنشائي النبرة وبليغ الكلمات، بأن يصنع تاريخاً ناصعاً لليلتي؟ ومتى أفخر بأني قبلتُ بسعة صدرٍ وقلبٍ رأياً كارهاً وعميقاً وذكياً وهادئاً من شخصٍ لا أعرفه؟ متى أكون رائعاً فأرفض مقايضة إعجابي بنص ضعيف كتبته امرأة جميلة بغنجها الـ "فيسبوكي متى أنجح وأبتعد عن "فيسبوك" أياماً، وأطير إلى أفلام أو كتب طويلة القامة؟
4855FC54-64E3-49EB-8077-3C1D01132804
زياد خداش

كاتب قصة فلسطيني، مواليد القدس 1964، يقيم في رام الله، يعمل معلما للكتابة الإبداعية، له عدد من المجموعات القصصية.