الثورات المصرية بين البدايات والنهايات

الثورات المصرية بين البدايات والنهايات

04 مايو 2016
+ الخط -
الثورة تعني التغيير الجذري لكل البُنى السياسية والاقتصادية والاجتماعية والثقافية، بما يعني تفكيك التكوينات القديمة أولاً، ثمّ إعادة تركيبها ثانياً، بعد إعادة التوازن المفقود لعلاقات التأثير المُتبادَل فيما بينها، بما يحقّق ضمانات تداول السلطة، وإعادة توزيع الثروة، فالثورة لا تعني مجرّد إطاحة حاكمٍ أو نظام حُكمٍ، ما لم تبزغ قوى جديدة حاملة لمبادئ الثورة، لتحلّ محلّ القوى القديمة، وتقوم بعملية إعادة بناء هيكليةٍ من شأنها تحقيق أهداف الثورة.
وفي الحالة المصرية، يزخر تاريخ مصر بالهبّات، والانتفاضات، والثورات، التي قام بها المصريون في مواجهة الاحتلال، والاستبداد، فمنذ رحيل الحملة الفرنسية شهدت مصر خمس ثورات على فترات مختلفة، وهو رقم كبير يدفع عن المصريين تُهمة الخنوع والاستسلام، بيْد أن المُلفِت أن كل تلك الثورات لم تستكمل مسارها، إمّا بتصفيتها وإجهاضها كلياً، أو بتفريغها من مضمونها ونجاحها جزئياً.
فقد هبّ المصريون لمواجهة الحملة الفرنسية بانتفاضتيْن كبيرتيْن، شهدتا مقاومة عنيفة أجبرت الحملة على الرحيل، واستمر الشعب منتفضاً بعدها في مواجهة مظالم الأمراء المماليك، حتى تمكّن بقيادة الزعامة الشعبية وزعيمها عمر مكرم، من خلع خورشيد باشا وتولية محمد علي.
ولقد لعبت الزعامة الشعبية دوراً كبيراً في تدعيم أركان حكم محمد علي، إذ أحبطت كل المؤامرات التي دبّرها الباب العالي والمماليك ضدّه، وتصدّت، ببسالةٍ، لحملة فريزر من دون وجوده، فقد كان محمد علي، آنذاك، في الصعيد يطارد المماليك، بل إنه تلكَّأ في العودة، وبدأ يميل لمصالحتهم، بعدما شعر بقرب انتصار الحملة.
وبعد أن حصد وحده ثمار النصر، وثبَّت أقدامه في السلطة، تخلَّص من الزعامة الشعبية بنفي عمر مكرم. وبعدها تربَّع محمد علي منفرداً على عرش مصر عدة عقود، لا شكّ في أنه حققّ خلالها نهضة، إلا أنها انطلقت من أساسٍ استبدادي، وسحقت جسد المجتمع بمطرقة الدولة، ودارت في إطار مجدٍ شخصيٍ وأُسريٍ له، وعقد اجتماعي مشوّه يقوم على أن الحاكم هو "ولي النعم"، وأن الرعية هم "عبيد إحسانات أفندينا"(!).
وانطلاقاً من مبدأ "مصر للمصريين" الذي صار عنواناً لنضال الحركة الوطنية المصرية منذ نهاية القرن التاسع عشر، جاءت الثورة العرابية في عام 1881، بعد تَوحّد مطالب الحركة الوطنية المصرية مع مطالب ضباط الجيش الوطنيين، بزعامة أحمد عرابي. إلا أن الثورة العرابية تردّدت في عزل الخديوِي، على الرغم من استصدار قرارٍ من الجمعية الوطنية بعزله، إلى جانب ترددّها في في اتخاذ إجراءات حاسمة، من شأنها تغيير الأوضاع التي ثارت عليها، مثل إلغاء السخرة والرقّ، والقضاء على احتكار الباشوات لمياه النيل، وحماية الفلاحين من المرابين اليونانيين، وكفالة حرية الانتخابات للبرلمان الجديد.
هذا إلى جانب تغليب قادة الثورة للعوامل الشخصية على المصلحة الوطنية، ونقصان الكفاءة
بالإضافة إلى الأطماع الخارجية، قادت محصلة هذه العوامل إلى إجهاض الثورة بعد الهزيمة العسكرية، ومحاكمة قادتها ونفيهم، ووقوع البلاد في براثن الاحتلال البريطاني أكثر من 70 عاماً. بيْد أن جذوة الحركة الوطنية لم تنطفئ بعد الاحتلال البريطاني، واشتعلت مجدداً، على يد مصطفى كامل باشا، مطالبة بجلاء المحتلين والاستقلال، ومهّدت الطريق أمام قيام ثورة 1919المجيدة التي تُعد أفضل الثورات في تاريخ مصر الحديث.
لقد قدّمت ثورة 1919 نموذجاً رائعاً للثورة الشعبية التي جمعت المصريين على اختلاف عقائدهم، وطبقاتهم، وفئاتهم، وأجيالهم، مُجتَمعِين خلف مطلبيْن، هما: الاستقلال والدستور. وحققّت ثورة 1919 نجاحاً جزئياً بالحصول على استقلالٍ شكلي منقوص، بصدور تصريح 28 فبراير/ شباط1922، وصدور دستور 1923 الذي منح القصر صلاحيات واسعة، كانت سبباً في تعثّر المسار السياسي الديمقراطي، الذي بدأ بانتخابات 1924 التي اكتسحها حزب الوفد اكتساحاً بزعامة سعد زغلول باشا.
وكانت الفترة من 1924 وحتى يوليو 1952حافلة بالصراع بين "الوفد"، ممثّل الحركة الوطنية المصرية من جهة والسلطتيْن، الشرعية ممثّلة في القصر، والفعلية ممثّلة في الاحتلال، من جهة أخرى، فلم يحكم "الوفد" خلال تلك الفترة سوى سبع سنوات متفرّقات، كما لم يُطبّق دستور 1923 في الفترة نفسها سوى 10 سنوات فقط، فكثيراً ما كانت حكومات الأقلية تقوم بتعطيله عبر "انقلابات دستورية"، بإيعاز من القصر والاحتلال.
وتظل نقطة الضعف الكبرى لثورة 1919 فشلها على الصعيد الاجتماعي، فقد أغفلت اتخاذ إجراءات حاسمة، لتفكيك بنية النظام الطبقي، وقصرت التمثيل السياسي للأمّة المصرية على طبقةٍ بعينها من كبار المُلاّك الذين حالوا دون حدوث أي إصلاحات اجتماعية، من شأنها تهديد مصالحهم. ثمّ جاء انقلاب 23 يوليو 1952 الذي حمل لقب "حركة الجيش"، ف"الحركة المباركة"، ثمّ لقب "ثورة" بعد التأييد الشعبي له (!).
قدّم نظام يوليو مشروعاً للتحرر الوطني خارجياً، وتحقيق العدالة الإجتماعية داخلياً، ونجح في تفكيك بنية النظام الطبقي، عبر عدة إجراءات متتالية، مثل قانون الإصلاح الزراعي وقوانين التأميم والتمصير. لكنه على الصعيد السياسي قدّم نموذجاً لدولة بوليسية استبدادية بامتياز، بعد الإجهاز على الحياة الحزبية، ومصادرة الحياة السياسية وتأميمها، ما أدى إلى قيام الأجهزة الأمنية بوظيفة المؤسسات السياسية، فقد ورثت دولة يوليو مجتمعاً يموج بالحيوية والتنوع الفكري والسياسي، فتعاملت معه بالتجفيف والتجريف، عبر "نزعة أبوية"، جنحت لفرض الوصاية عليه، وتكبيل حركته، وعملت على تجميع جميع قواه في إطار "التنظيم الشمولي الأوحد"، ما أحدث مناخاً مثالياً للانتهازية السياسية والفكرية، أفرز طبقةً مُنتفعة من صفوة رجال المؤسسة العسكرية، وأصحاب الشركات الصناعية، والقيادات الكبرى في البيروقراطية المصرية، عملت على عزل الدائرة الحاكمة، ما أدّى إلى كارثة 1967.
ولم يكن غريباً أن تذهب المنجزات الاجتماعية لنظام يوليو1952 أدراج الرياح بعد رحيل عبد الناصر، لأنها كانت مرتبطة بالأساس بالإرادة الشخصية للحاكم الفرد، ومفروضة بعصا الدولة المُسلطة على حرية المجتمع، من دون مشاركة شعبية حقيقية، تحميها وتدافع عنها. وبنهاية الحقبة الناصرية، كانت الخسارة فادحة ومزدوجة، فلا تمّ الاحتفاظ بما كان من مساحات للحرية، ولا كان الحفاظ على ما تحقق من منجزات اجتماعية.
وبعد عقود عجاف من التفريغ والتجريف، جاءت ثورة 25 يناير 2011 شعبية رائعة، اندلعت على يد مجموعات شبابية، تعاني سيولة فكرية وتنظيمية، واستطاعت إطاحة حسني مبارك في 18يوماً، إلا أنها فشلت في تقديم بديل ثوري، وهو ما أعاد إنتاج الثنائية الصراعية المنكودة نفسها، والتي رسفنا فيها أكثر من 60 عاماً (دولة يوليو 1952 – جماعة الإخوان المسلمين).
والآن، ووفقاً لمعطيات المشهد الحالي، يقف طرفا تلك الثنائية المغلقة في حالةٍ من الانكشاف والإفلاس المُتبادَل، فدولة يوليو 1952 استهلكت كل سردياتها القديمة التي اقتاتت عليها طوال العقود الماضية، ودبّ الوهن في أوصالها، ووصلت إلى حالة جزئية متفاوتة من الفشل الوظيفي، والانهيار المؤسسي، لم يعد يُجدي معها العلاج بـ "المُسكّنات". وكذلك حال جماعة الإخوان المسلمين، وبقية تنظيمات الإسلام "الحركي" التي باتت تعيش خارج العصر متقوقعةً داخل أضابير التنظيم، بعدما استهلكت كل سردياتها القديمة، واقتصرت على إعادة تدوير خطاب "المظلومية" الهوياتي العاطفي الذي عفا عليه الزمن، وهو ما يستلزم ظهور بديل جديد، يكسر تلك الثنائية.
أمّا المعضلة الأكبر فهي أن العقد الاجتماعي الذي أرسته دولة يوليو 1952، وكان عنوانه "السياسة مقابل الخبز"، القائم على تنازل المواطنين عن حقوقهم الدستورية والسياسية، في مقابل قيام الدولة بواجباتها الاقتصادية والاجتماعية، قد انتهى عمره الافتراضي، وولّى عصره، من جهة، كما أن الدولة نكثت عن الوفاء بالتزاماتها، ولم تعد قادرةً على أدائها من الأصل من جهة أخرى، ما يعني أن المشكلة تجاوزت محاولات ترقيع الثوب القديم المُهترئ إلى ضرورة تغيير الجسد المُتيبّس المُتهالِك.