إسرائيل واليونسكو... القدس وابتزاز فرنسا

إسرائيل واليونسكو... القدس وابتزاز فرنسا

29 مايو 2016

جلسة تصويت اليونسكو لقبول عضوية فلسطين(31 أكتوبر/2011/Getty)

+ الخط -
تشن حكومة إسرائيل وأنصارها حملة على منظمة الأمم المتحدة للتربية والعلوم والثقافة (اليونسكو) ما زالت في تصاعد. فعشية انفضاض أعمال الدورة 199 للمجلس التنفيذي للمنظمة، في منتصف إبريل/ نيسان الماضي، جاءت تصريحات رئيس الوزراء، بنيامين نتنياهو، عن "قرار سخيف آخر اعتمدته الأمم المتحدة"، وعن أن "منظمة اليونسكو تتجاهل العلاقة التاريخية الفريدة من نوعها القائمة بين الديانة اليهودية وجبل الهيكل"، "مقرِ هَيكلي اليهودِ الإثنين، ومحط تطلعهم عبر آلاف السنين". وبحسب نتنياهو، تعيد الأمم المتحدة كتابة جزء أساسي من تاريخ البشرية (أي تشوّهه)، وهي بذلك تؤكد أن انحطاطَها، كما يقول، لا قعر له.
ولكن، ما هي قصة قرار اليونسكو الذي أثار كل هذا اللغط، وما هي الدوافع الفعلية، أي غير المعلنة (وهي ليست خفية على كل حال) التي حثّت نتنياهو، وكل الجوقة التي تعزف لحنه، على التهجم على "اليونسكو"، بلغةٍ تخلو حتى من أبسط قواعد الدبلوماسية، كيلا أقول بإسفاف و/أو بسوقية؟ ثم ولماذا الآن؟
لنبدأ من حيث يجب أن نبدأ. التهمة الرئيسة التي تركّزت عليها حملة إسرائيل وأنصارها، وخصوصاً في فرنسا، هي أن اعتداءً وقع بحق إسرائيل في رحاب "اليونسكو"، وأن هذا الاعتداء دُبّر، أخيراً، أي هو جديد، وفحواه أن لغةً استجدّت تُنكر على اليهود روابطَهم بالأماكن اليهودية المقدسة، أي بالقدس العتيقة. في 24 إبريل/ نيسان الماضي، سيختارُ موقعٌ إلكتروني لأنصار إسرائيل (وهو بالمناسبة مختص بترويج الإسلاموفوبيا) إسمه (مقاومة جمهورية Résistence Républicaine = مقاومةٌ ضد الغزو الإسلامي) العنوان التالي لافتتاحيته : "بالتواطؤ مع فرنسا، اليونسكو تنتزعُ من اليهود مواقعَهم المقدسة". بعد ذلك بأيام، سيوجه عضو البرلمان الفرنسي والمقرّب من حكومة تل أبيب، مائير حبيب، في 28 إبريل/ نيسان، رسالة إلى الرئيس الفرنسي، فرنسوا هولاند (مفتوحة طبعاً ومنشورة على أوسع نطاق) يؤكد له فيها أن فرنسا تلبّسها العارُ، حين صوّتت لصالح قرارٍ غايته أسلمة القدس و"تصفية اليهود" (judenrein ) منها (لاحظوا المصطلح النازي). أما (الفيلسوف) ألان فِنْكِلْكروت فسيقول، في برنامجه الإذاعي في 13 مايو/ أيار الجاري، إن اليونسكو تُغيِّر ماضي القدس، وتعيدُ كتابته (أي تُحرِّفَه) من منظار الأيدولوجيا السائدة اليوم، وهي الأيدولوجيا الإسلامية.
وفي القضية، كما هو بيّن، شقان أو جانبان مترابطان: الاعتداء على اليهود، وجدّة هذا الاعتداء، من ناحية، واتهام فرنسا بخيانة مبادئها، والقول بعارٍ تلبّسها، إذْ رضخت لضغوط العرب والمسلمين، من ناحية ثانية.

لم تُغيِّر "اليونسكو" مصطلحاتها
نبدأ بجِدّة "الإعتداء". بخلاف كل هذا اللغط، ويعطي الانطباع بأن أمراً جللاً وقع بخصوص
القدس، أفتتحُ بالقول إنه لا جديد بلغة قرار منظمة اليونسكو، لا جديد على الإطلاق. ذلك أن لغة قراراتها بخصوص القدس لم تتغيّر منذ عشرات السنين. والمُصطلحاتُ التي "تُستنكرُ" هنا هي نفسُها المعتمدةُ لدى "اليونسكو"، وفي الحقيقةِ، لدى منظومةِ الأمم المتحدة، منذ نشأت قضية القدس غداة الاحتلال الإسرائيلي في 1967.
وإذ لا يتسع المقامُ لاستعراضٍ تاريخي لعلاقة اليونسكو بالقُدس وفلسطين، أكتفي بإشاراتٍ قد تكون كافيةً لمقالٍ في صحيفة. ثم إن القصة تنفتح، كما نعلم جميعاً، على تفصيلات الاحتلال الإسرائيلي للقدس، وعلى خططه وإجراءاته التي تستهدفُ السيطرةَ على المدينةِ، وتحويل ضمّها "القانوني" (أعلنته السلطات الإسرائيلية من طرف واحد في 30 يوليو/ تموز 1980، وأكدته في 27 نوفمبر/ تشرين الثاني 2000 بتصويت الكنيست على قانونٍ يحظُر فيه التعرُّضَ للسيادة الإسرائيلية على القدس، بصفتها العاصمة الأبدية والموحدة لإسرائيل)، إلى ضمٍ فعلي معترفٍ به دولياً.
ولأن "اليونسكو" جزءٌ من منظومة الأمم المتحدة، فإن قراراتها جميعَها (قرارات المجلس التنفيذي والمؤتمر العام) تعكسُ قرارات الأمم المتحدة (مجلس الأمن والجمعية العامة) والمواثيق والاتفاقات الدولية التي تنظم عملها. ويتعذّر عليها، بالتعريف الضروري، أن تتبنى لغةً تغايرُ لغةَ منظومةِ الأمم المتحدة و/أو تجافيها و/أو تخرج عن مضونها. وهكذا ظلت قرارات "اليونسكو" تنظر إلى كل الأراضي الفلسطينية التي احتلت في 1967، بما فيها القدس الشرقية، على أنها أراضٍ محتلة، وأنه تترتب على دولة الاحتلال مجموعة من الالتزامات، تتقدمها، فيما يخص موضوعنا، الامتناع عن إحداث أي تغيير في الوضع السابق على الاحتلال. وفي 1969، دانت "اليونسكو" إسرائيل على تهديمها حي المغاربة، وطلب منها المؤتمر العام في 1972 عدم المسّ بالمواقع الأثرية والمباني والممتلكات، وبالامتناع عن أي تعديلٍ في الطابع الفريد للمدينة القديمة، وبالكف عن أي تنقيبٍ أركيولوجيٍّ باعتباره يهدّد معالم المدينة وخصوصيتها.
ومن المفيد الإشارة إلى أن الاستخدام الدائم لمصطلح القوة المحتلة في قرارات منظمة اليونسكو ليس سلبياً بحد ذاته؛ ذلك أنه يحيل إلى التزامات الدولة المحتلة، بحسب اتفاقيات جنيف الأربعة وبروتوكولاتها، وغيرها من المواثيق الدولية، بخصوص المناطق الخاضعة للاحتلال وبخصوص سكانها. والدليل أن الولايات المتحدة الأميركية طالبت، بعد العام 2003، بالاعتراف بها قوة محتلة في العراق، لكي يتسنى لها التدخل بالشؤون التي تخصّ آثار العراق وتراثه. هكذا سُجلت القدسُ العتيقة على قائمة التراث العالمي (1981) والتراث العالمي المهدّد بالخطر (1982). بالضبط لأن إسرائيل لا تحترم المواثيق الدولية التي تقول إنها تراعيها، وتلتزم بها، وبغية حماية المدينة من الحفريات والتغييرات التي تجريها، وتمس المدينة، وتهدّد طابعها الفريد.
ثمّة في اليونسكو قراران دائمان يخُصّان فلسطين، يتعلق أحدهما بـ"المؤسسات التعليمية 
والثقافية في الأراضي العربية المحتلة"، ويتعلق ثانيهما بالقدس. تتم صياغتهما بالتعاون مع مندوب فلسطين الدائم، وبمعرفته وبموافقته، وبالتنسيق مع الأردن فيما يخص قرار القدس (أو بفقرةٍ عنوانها القدس من قرار واسع استُحدث قبل سنتين عنوانه "فلسطين المحتلة"). يُصار إلى تقديم مشروعي القرارين باسم الدول العربية الأعضاء في المجلس التنفيذي لليونسكو (وتنضم إليها أحياناً دول إسلامية وأفريقية)، ويجري التفاوض حولهما، ويتبناها المجلس التنفيذي، بالإجماع أو بالتصويت، كما هو متبعٌ منذ قليل من السنوات.
وأدلةً على أن لغةَ مصطلحات اليونسكو بخصوص القدس لم تتغير منذ سنوات: في 15 مارس/ آذار 2007، استخدم المديرُ العام، كويشيرو ماتسوورا، في مؤتمر صحافي عقده بمناسبة تقرير بعثة خبراء االيونسكو التقنية إلى القدس مصطلح "مدخل الحرم الشريف". ويستخدم قرار (القدس) الذي اعتمده المؤتمر العام 38 في 17/ 10/ 2015 مصطلح الحرم الشريف، بالإضافة إلى أنه يُعرب عن قلقه "من العوائق والممارسات، أحادية الجانب كانت أم غير ذلك، التي تضر بالمساعي الرامية إلى المحافظة على الطابع المميز لمدينة القدس القديمة". وفي قراره الذي اعتمده في 16 أكتوبر/ تشرين الأول 2015 بعنوان فلسطين المحتلة، يقولُ المجلس التنفيذي 197 إنه يستنكر بشدة "امتناع إسرائيل، القوة المحتلة، عن وقف أعمال الحفر والأشغال المتواصلة في القدس الشرقية وحولها..."، ويُفرد فقرةً خاصةً بعنوان المسجد الأقصى/ الحرم الشريف والمنطقة المحيطة به". ويتكرّر الأمر، في قرار المجلس التنفيذي الأخير (199)، مثار اللغط.
لا جديد إذن لا في المصطلحات، ولا في المدلولات. فما القصة إذن"؟ ما الذي تغير حتى استُثير نتنياهو بهذه الصورة؟ والقضية، كما نعرف، ليست قضية مصطلحات، وهي بالتأكيد ليست مجرد رغبةٍ في تغيير لغوي، من حيث هو كذلك، فالمطلوب، في حقيقته شبه المعلنة، اعتماد لغةٍ تُحيل إلى استراتيجيةٍ تُنفّذ، بالتدرّج، بخصوص ملكية المواقع، وبالضرورة في السّرد الذي يعكسُ هذه الإستراتيجية.

رمزية القدس ورمزية اليونسكو
لليونسكو رمزية تُغري بالمسّ، وفي الحقيقة بالنزاع حول هذه الرمزية وتوظيفها، إن أمكن، في المعارك التي تتجاوز اليونسكو نفسها، أي التي تلبي مصالح مادية و/ أو سياسية واقتصادية وتجارية وغيرها. فتسجيل موقعٍ ما على قائمة التراث الثقافي العالمي يوفر، على سبيل المثال، جملةً من المنافع، ليست ثقافية بالضرورة: سياحية، صناعية وسياسية إلخ. وهو يوفر في حالة المواقع الفلسطينية، وفي مقدمها القدس، منافع سياسيةً مؤكدة.
هكذا، يمكن القول إن رمزية اليونسكو، ومكانتها المعنوية في قلب منظومة الأمم المتحدة، وقواعد اللعبة فيها يجعل منها هدفاً شبه دائم لتلاعبات الدول الكبرى، ولضغوطها التي لا تتوقف، ومن ذلك قضية القدس. واللغط حول التسمية في قرارات اليونسكو أنها تُحيلُ، بالضبط، إلى معركة تملّك أرض فلسطين، وإعادة كتابة سرديتها. وهي عقدةُ القصة التي نحن بصددها؛ ويتعذّر تفهمها من خارج سياقها التاريخي، أو الإستراتيجي اليوم.
ونحن نعلم أن إسرائيل، إذ تُمعن في استيطانها في الأراضي المحتلة من فلسطين في العام 1967، تطالب الفلسطينيين، خصوصاً بالإعتراف بيهودية دولة إسرائيل، أي بتبني سرديّةٍ تُلغي سرديّتهم، وتعترف بأسبقية وطنٍ أركيولوجي، افتراضي، لم ولن يبرز من بين الأنقاض، وأوَّليته على الوطن التاريخي، أي على روابط الفلسطينيين الحيّة بهذا الوطن. 
لا شيء يعوّض قدرة نتنياهو وأنصارِه على الاستفزاز. كل الأسلحة الي يمكن استخدامها
مشروعة: من المبالغة والتلفيق والكذب إلى الابتزاز الشخصي، وغير ذلك. والتهمة جاهزةٌ؛ تُخرجُ من صندوق التّهم، حين يقتضي الأمر، حتى لو كانت لا تصدّق. من لا يتذكّر اتهام نتنياهو الحاج أمين الحسيني أنه الذي أوحى للنازيين بتبني خطة تصفية اليهود؟ كلتا التهمتين تنتميان، كما نعرف جميعنا، إلى السياق نفسه، والسبب نفسه، والتوقيت نفسه: تحويل القضية الفلسطينية والكفاح الفلسطيني، في زمن الإسلاموفوبيا، إلى قضيةٍ دينية، والفلسطينيين إلى إرهابيين متشدّدين دينياً. والتهمةُ، هذه المرة، كذلك، غير مثبتة إطلاقاً، وغير صحيحة من غير لبس، لكنها جاهزة قيد الطلب: فقدت اليونيسكو شرفها، خانت رسالتها، وأصابها مسٌ من العار، فقد اعتمدت هذه المنظمة الدولية قراراً "يكتب تاريخ القدس مُشوهاً" أو، بحسب (المؤرخ والسوسيولوجي) شموئيل تريغانو، يخطه "من وجهة نظر إسلامية فقط". إنه يُنكر العلاقة التاريخية الألفية لليهود بالقدس، كما يقول. ويتذاكى شموئيل تريغانو، الغارق حتى أذنيه في الدعاوى ضد الفلسطينيين وأنصارهم منذ سنوات عديدة، و"يُشرِّح" تصويتَ أعضاء المجلس التنفيذي لليونسكو على القرار. لا غرابة في أن النص اعتمدته الدول العربية، لأنها دول إسلامية الثقافة، بما في ذلك تونس التي تتزيّن زوراً، كما يقول، بالديمقراطية، باعتبار أنه نصٌ "يعيد كتابة التاريخ من منظار الإسلام" (الفيغارو 2/ 5 /2016)؛ لكن الغرابة تكمن في نوعية المُصوتين الآخرين. ولن يجد تريغانو غير مخزونه الثقافي عوناً لمسعاه الهادف إلى فك الـ"طلاسم". لا سياسة في تصويت الدول في اليونسكو، بل جذورٌ مغروزة "تُعقلن" لقراء "الفيغارو" أصولية تفكير تريغانو، وهي، هنا، الجذور الدينية أو الثقافية/ الدينية للدول. تقليداً لماكس فيبر. ولكن، من غير ذكاء الأخير، يرُدُّ تريغانو الأمرَ إلى العلاقة بالعهد القديم. الدول ذات الثقافة "البروتستانتية" صوّتت ضد القرار، وهي الولايات المتحدة الأميركية وبريطانيا وهولندا وإستونيا وليتوانيا وألمانيا، أما الدول التي صوّتت مع القرار، فهي كاثوليكية غربية (رومانية)، مثل إسبانيا وفرنسا وسلوفينيا. "البروتستانت يعترفون بالعهد القديم"، يقول تريغانو؛ في حين أن اعتراف الكاثوليك به مواربٌ أو ضعيفٌ وغير مباشر.
لماذا الحملة الآن؟ لأن إسرائيل التي تزداد تطرفاً وعدوانية، تظن، أولاً، أن اللحظة الحالية مناسبة تماماً للاستفراد بالفلسطينيين، وفرض الحل الذي تريده عليهم، من ناحية، والتذرّع بلغة القرار من أجل الضغط على فرنسا وابتزاز ساستها وعرقلة مبادرتها التي تعني، بالنسبة لنتنياهو، إحباط مسعى الإسرائيليين للاستفراد بالفلسطينيين، من ناحية ثانية. ولأن القصة تندرج، ثانياً، بـ"الوطن الأركيولوجي"، أي الوطن الذي يُرادُ له أن يخرج من بين الأنقاض، ومن أعماق الأرض، كي يُلغي شرعية الوطن الحي، أو الوطن التاريخي، وهو وطن الفلسطينيين، و/ أو يسوّغ ما يفعلونه بهذا الأخير في التاريخ: التهديم، وفي ناسه الفلسطينيين: القتل والتهجير.
نعرف أن الغرض الأساس من بحث الإسرائيليين الأركيولوجي المحموم الذي لم يتوقف تحت الأرض الفلسطينية هو إثبات الوجود العبري، أو اليهودي، تحت الأرض، بما هو طريقة مواربة لإثبات شرعية "العودة" إلى فلسطين، وشرعية تبديل اسمها إلى أرض إسرائيل، وشرعية القول إن الله هو الذي منحها لشعبه بشكل خاص. وهنا، بيت القصيد.

A15E2479-A86E-4FA5-9A8C-7C4CA1FB6626
محمد حافظ يعقوب

باحث وكاتب فلسطيني مقيم في باريس. من مؤسسي الحركة العربية لحقوق الإنسان. يحمل دكتوراه الدولة في علم الاجتماع من جامعة باريس. نشر مقالات ودراسات بالعربية والفرنسية. من مؤلفاته بالعربية: العطب والدلالة. في الثقافة والانسداد الديمقراطي. بيان ضد الأبارتايد.