تقاسيم على وتر الريع

تقاسيم على وتر الريع

23 مايو 2016

أسعار أسهم شركات في سوق دبي المالي (20 يناير/2010/أ.ف.ب)

+ الخط -
ارتبط مفهوم "الريع" والدولة الريعية بدول الخليج العربي التي تعتمد على النفط مصدراً شبه وحيد لدخلها، لكن الاقتصاد الريعي لا يرتبط فقط باستخراج مادة خام وبيعها، واعتماد الاقتصاد الوطني شبه المطلق على عوائدها، وإنما يتعدّى ذلك إلى أي نشاط اقتصادي في قطاعاتٍ تدرّ أرباحاً من دون جهد إنتاجي، كما يشير إلى ذلك جورج قرم، في نقده الاقتصاد الريعي العربي، إذ تعتمد معظم الدول العربية، بشكل واضح، على مصادر دخل ريعية، منها تصدير مواد أولية مثل القطن، والاعتماد على السياحة استناداً إلى آثار تاريخية، أو أجواءٍ معتدلة، والتحويلات المالية من المغتربين، والمعونات المالية الخارجية. الجامع بين هذه الأنشطة أنها توفر مداخيل مالية، من دون الحاجة إلى جهد إنتاجي يُذكر.
وفي حالة الدولة الريعية، يصبح الإنفاق الحكومي من مداخيل الريع عَصَب الاقتصاد. وعليه، تعتمد كل الفئات على هذا الإنفاق، بما في ذلك القطاع الخاص. في حالة الريع، لا يكون الموظفون من المواطنين مساهمين في عملية إنتاج، بل هم عبء على الدولة، فهي توزع الريع عليهم على شكل وظائف حكومية، وحين تندلع أزمة اقتصادية، ناتجة عن انخفاض مداخيل الريع، يصير ضرورياً التخفف من عبء توظيف هؤلاء، برمي جزءٍ من المسؤولية على القطاع الخاص. لا توجد عملية تعليمية تؤهل المواطنين لغرض الإسهام في عملية الإنتاج، ويمكن الاعتماد على استيراد كفاءاتٍ من الخارج للقيام بأغلب المهام الصعبة.
تم نقد هذه الحالة الريعية في كتابات عديدة، كما أن شعار "تنويع مصادر الدخل" استُهلك لكثرة استخدامه في عقودٍ مضت، لكن الحديث عن التنويع، وعدم الاعتماد على النفط والغاز في الخليج، لا يكون، بالضرورة، مقدمةً للحديث عن إيجاد حالةٍ إنتاجية، واستحداث تنميةٍ مستقلةٍ مستدامة، معتمدة على ذاتها، توظف الطاقات البشرية، بعد تدريبها وتعليمها، لإيجاد خطوط إنتاج وقاعدة صناعية، بل يكثر الكلام عن الاستثمار في مجالاتٍ ريعيةٍ أخرى، مثل العقارات والسياحة، وفتح الباب لمزيد من الخصخصة والاستثمارات الأجنبية. ونجد هذا الطرح النيوليبرالي في وصفات المؤسسات الدولية، والشركات الاستشارية الغربية، ويتردّد صداه في حديث أغلب الاقتصاديين الخليجيين.

لم تكن وصفات مؤسساتٍ، مثل البنك الدولي وصندوق النقد الدولي، إلا وبالاً على دول العالم الثالث، بإدخالها في دوامةٍ من الديون، وإضعاف اقتصادها، ووسيلةً لاستمرار هيمنة القوى الغربية اقتصادياً، وفتح أسواق هذه الدول للشركات الغربية الكبرى، خصوصاً أن من يديرون دفة هذه المؤسسات الدولية جاؤوا من تلك الشركات الكبرى والبنوك، ولا يفكّرون خارج نطاق مصالحها. تقوم الوصفات النيوليبرالية لهذه المؤسسات والشركات الاستشارية على مزيد من الخصخصة، لتطاول مجالات الرعاية الاجتماعية، كالتعليم والصحة، بحجة تخفيض العجز، وعلى إلغاء القيود على الاستثمارات الأجنبية، وتحرير الأسواق، وتقديم الحوافز لجذب رأس المال الأجنبي، والتوجه للاستثمار في الأسواق المالية أو في قطاع السياحة، لتحصيل أرباح سريعة.
حين يصبح تنويع مصادر الدخل استثماراً في قطاعاتٍ غير إنتاجية، أو فتحاً للأسواق أمام المستثمر الأجنبي، تخرج مجموعة من الاقتصاديين المحليين للتصفيق والتهليل، وهم الذين يعتقدون، وفقاً لفهمهم الاقتصادي، أن هذه الوصفات غاية المنى، إذ إنهم خريجو هذه المدرسة الاقتصادية النيوليبرالية التي تقدّم هذا النهج بوصفه "الاقتصاد"، وليس وجهة نظر في الاقتصاد. ولا يستطيع هؤلاء التفكير خارج هذه المنظومة، كما أنهم لا يتمكّنون من الانتباه إلى الفروق بين بلدانهم والدول الغربية، ولا تحديث معلوماتهم، ليلتفتوا إلى ما جرّته هذه الوصفات من كوارث على دولٍ نامية كثيرة، ولا ما أنتجه النهج النيوليبرالي من أزماتٍ داخل أميركا وأوروبا، ما دفع عتاة النيوليبراليين إلى مراجعة مواقفهم وأفكارهم. وينحصر كثير من النقد المقدم لهذه الوصفات في الحديث عن إمكانية تطبيقها من عدمها، مُسَلِّماً بصحتها نظرياً، من دون النظر إلى عيوبها الضخمة.
كان تنويع مصادر الدخل أمراً مطلوباً، ولا زال، لكن مصادر الدخل المطلوبة ليست ريوعاً أخرى. وللدقة، ليس تنويع مصادر الدخل هو نفسه تنويع مصادر الريع، فالمسألة تتعلق بالانتقال من نمط اقتصادٍ ريعي إلى آخر إنتاجي، واستحداث مصادر جديدة للريع لا يُحدث هذا الانتقال، فضلاً عن أن مصادر الريع الجديدة هذه، عند مناقشة تفاصيلها، إما ضعيفة أو حاملة لمخاطر عالية.
تبرز الخصخصة، أساساً، في كل الوصفات النيوليبرالية، وقد شاهدنا، في السنوات الأخيرة، ما جرّته هذه الخصخصة من أزماتٍ على بلدان عربية عديدة، وهي ساهمت في تجريف الطبقة الوسطى، وتكريس ثنائية القلة المرفهة والأغلبية المسحوقة، وخصوصاً أن هذه الخصخصة تأتي في سياق تعزيز التفاوت الطبقي، وحماية الأثرياء من الضرائب على الثروة، وتنهي مسؤولية الدولة في تقديم الرعاية الاجتماعية، وتتم في إطار رأسمالية المحاسيب، كما يسميها سمير أمين، حيث تباع أملاك الدولة لمصلحة رجال أعمالٍ مقربين من دوائر صنع القرار، بشكلٍ يعزّز الاحتكار ويمنع التنافس.
يتطلب الخروج من الريع الانتقال إلى حالةٍ إنتاجية، وصناعة اقتصادٍ وطنيٍّ ذي قاعدةٍ صلبةٍ، تدريب قوة عاملة وطنية منتجة وتطويرها، وتوطين التكنولوجيا، وهذه أمور تحتاج إلى صبر وعمل، وإلى الابتعاد عن الوصفات الجاهزة السريعة، ذات الأثر السلبي.

9BB38423-91E7-4D4C-B7CA-3FB5C668E3C7
بدر الإبراهيم

كاتب سعودي. صدر له كتاب "حديث الممانعة والحرية"، و"الحراك الشيعي في السعودية .. تسييس المذهب ومذهبة السياسة".