تونس وجدل عقوبة الإعدام

تونس وجدل عقوبة الإعدام

22 مايو 2016

لا بد من إعادة صياغة العقل العقابي برمته (Getty)

+ الخط -
كانت 1991 آخر سنةٍ تم فيها تنفيذ حكم الإعدام في تونس، وعلى الرغم من صدور نحو 120 حكماً بالإعدام منذ ذلك التاريخ، فقد تم تجميدها، بل ذهب رئيس الجمهورية السابق، المنصف المرزوقي، انتصارا إلى ثقافته الحقوقية، إلى الحط مما يقارب 120 حكماً بالإعدام، وإبدالها بأحكام سجن مؤبدة. ولم تصدر، بعد الثورة، إلا أحكام قليلة تعد على أصابع اليد، وكلها تتعلق بجرائم قتل هزّت الرأي العام لبشاعتها. وعلى الرغم من هذا، يُثار، حالياً ومجدّداً، أمر حكم الإعدام. ولكن، تحت ضغط مطلب "شعبي" هذه المرة. يحدث ذلك، وفق تجييشٍ غير مسبوق حول جنازة آخر ضحيةٍ لهذه الجرائم البشعة إلى مسيرة شعبية ضخمةٍ، تُنادي بتنفيد الإعدام في حق المجرم. لا أحد ينكر أن الجريمة التي ذهب ضحيتها الطفل أربع سنوات على يد شاب لم يتجاوز عمره 25 عاماً، وهو رقيب في الجيش التونسي، كانت بكل المقاييس وحشيةً لعل من عوامل فظاعتها سن الضحية وغياب أي مبرر موضوعي، ناهيك عن طريقة القتل إلخ. تحت الصدمة من أعمال القتل المجانية والعبثية تلك، والتي يجد فيها الإعلام مادة ثمينةً للإثارة والاستثمار، خصوصاً في سياق اجتماعي بعد الثورة منفلت، تواترت فيه جرائم القتل البشعة، يصبح تنفيذ أحكام الإعدام مطلباً شعبياً ملحاً.
ما يعنينا، بشكل رئيس، في هذا، أن أصواتاً معتدلة، بل محسوبة على الوسط الحقوقي، من محامين وغيرهم، قد انضموا إلى نادي المنادين بتنفيذ هذا الحكم، وفي أكثر من موقع إعلامي وجمعوي.
من خلال هذه الحملة الصاخبة المستنكرة مثل هذه الجرائم البشعة، يجد المجتمع التونسي نفسه عارياً أمام مرآة حقيقته المعقدة والملتبسة، فهذا الشعب الذي أنجز ثورته الفريدة يحيا حالياً متفككاً منفصماً، وهو حال كل المجتمعات التي تمر بمنعطفات كبرى في تاريخها، فهي تشهد مثل ذلك التفكك والعنف والفردانية المتورمة التي تشق جل المؤسسات الاجتماعية. كان حال ذلك حال المجتمع الفرنسي الذي شهد موجاتٍ غير مسبوقة من الجرائم والانتحار، ولعل ذلك ما شكل مادة خصبة للبحوث الاجتماعية، ذات الصيت العلمي العالمي التي رافقت ما وصف بالمنعطف الكبير.
يستعيد المجتمع التونسي، في حماسته الحالية المنادية، على نحو كبير، بتنفيذ أحكام الإعدام الصادرة، مسائل خلافية عديدة، حتى إن حسمت دستورياً، فانها لا تزال تثير خلافاتٍ عديدةً في أوساط الرأي العام، المنقسم بطبعه حول مسائل أخرى عديدة، على غرار المساواة في الإرث بين الرجل والمرأة، التعليم الديني في الكتاتيب، حقوق المثليين وغيرهم .. إلخ.
ولكن، يبدو أن الإجماع الحاصل في هذه المسألة بالذات أخلاقي انفعالي هذه المرة، بل يستعيد
ما نسيه منذ سنوات قليلة، فلقد ارتكبت جرائم بمثل هذه الفظاعة أو أكثر، في حق أطفالٍ أبرياء ومسنين بؤساء ونساء حوامل. ومع ذلك، لم نجد، آنذاك، إلا حالاتٍ نادرةً من الأصوات التي تنتصر لعقوبة الإعدام. بعيداً عن تقديم فرضيات تفسيرية لانعطاف الرأي العام التونسي تجاه منظومة الإعدام، ومجافاته ثقافة حقوق الإنسان القاضية بإلغائها، فإننا نعتقد أن الأزمات الحادة الاقتصادية والاجتماعية أربكت تلك القشرة الشفافة مما كنا نتوهم أنها ثقافة مدنية ترسخت، وهي قائمة على قيم الحياة وقداستها. ولربما قد تكون بصدد تبديدها حالياً. لا يصنع الدستور على عظمته ثقافة عامة، تهدي سلوكات الناس، وتوجه خرائطهم الرمزية، إذ ينص على أن "الحق في الحياة مقدس، لا يجوز المساس به، إلا في حالاتٍ قصوى، يضبطها القانون".
نتذكّر جميعاً أن الشق الذي نادى بالإبقاء على عقوبة الإعدام، لمّا كان المجلس التأسيسي يصوغ هذا الدستور، كان لسببين، أولها الانتساب الأخلاقي "للحد الأدنى من الشريعة الإسلامية"، وثانيهما الاعتقاد بأن الخوف من الإعدام قد يحدّ من انتشار جرائم كهذه على الأقل. أما الشق الثاني، فقد كان "حداثياً" منتصراً للمنظومة الكونية لحقوق الإنسان التي تنص على قداسة الحق في الحياة. مسك الدستور بروحٍ توفيقية مواربة، العصا من نصفها، مختاراً الاعتدال، فلا استسهال لإباحة حكم الإعدام ولا منعه منعاً باتاً وصريحاً. ولعلنا نتذكّر أن أصواتاً عديدة اعتبرت أن انضمام تونس إلى نادي الدول الديمقراطية يقتضي شطب حكم الإعدام بشكل نهائي وصريح، وقد رد بعضهم عليها بأن ديمقراطياتٍ عريقة، بما فيها الولايات المتحدة الأميركية، ما زالت تتبنى حكم الإعدام، والمهم، في مثل حالتنا، هو التقييد عليه، وجعله استثناءً محدوداً.
يستأنف النقاش العمومي حول عقوبة الإعدام، متغذياً، هذه المرة، من رأي عام متبرم قلق وخائب. ولكن، علينا ألا نجعله بوصلتنا. رأينا كيف يجر مثل هذا الرأي العام نخباً ومجتمعاتٍ إلى أقصى التطرف، فحالتا النازية خلال أربعينيات القرن الفارط، وصعود اليمين المتطرف في أوروبا حالياً، وقد استفادتا من الأزمات والخيبات الاقتصادية والاجتماعية، بليغتان في هذا الصدد.
ففي حين تغلق دول عديدة، وخصوصا الاسكندنافية، السجون، ولا تجد ما تبرّر به تشغيلها، تعيش السجون التونسية حالاتٍ غير إنسانية من سوء المعاملة والاكتظاظ، حتى عادت أحد أهم مطالب المجتمع المدني والوفود الدولية الزائرة لتونس، في الأسابيع الأخيرة، توسيع تلك السجون وبناء أخرى جديدة. يحتاج هذا منا لا إلى مجرد إعادة التفكير في جدوى عقوبة الإعدام وفاعليتها فحسب، بل إلى إعادة صياغة العقل العقابي برمته، بشكل جذري، يبدو أن القضاء على الجريمة لا يقتضي ترسانةً من العقوبات، بل إلى سياساتٍ اجتماعية وثقافية مغايرة.
لا أعتقد أن الأمر مرتهن بإعادة العمل على تنفيذ عقوبة الإعدام. ولكن، أعتقد أن الأمر، بقطع النظر عن ظرفيته المحتكمة إلى هشاشة المجتمعات، في أثناء فترات التحولات الديمقراطية، هو قدرة المجتمع على حفظ حق جميع أبنائه في الحياة، بما فيها من أجرم. تجفيف وكر الجريمة لا يقتضي إعداد المشانق في الساحات العامة عبرةً لمن يعتبر، كما تنادي صفحات في المواقع الاجتماعية، بل إلى إعادة معنى قداسة الحياة في معناها الشامل.
7962F3C9-47B8-46B1-8426-3C863C4118CC
المهدي مبروك

وزير الثقافة التونسي عامي 2012 و2013. مواليد 1963. أستاذ جامعي، ألف كتباً، ونشر مقالات بالعربية والفرنسية. ناشط سياسي ونقابي وحقوقي. كان عضواً في الهيئة العليا لتحقيق أَهداف الثورة والعدالة الانتقالية والانتقال الديموقراطي.