حركة النهضة... جدل الدّعوي والسّياسي

حركة النهضة... جدل الدّعوي والسّياسي

18 مايو 2016
+ الخط -
يُفترَض في الحزب السّياسي في المجتمعات الدّيمقراطيّة الحديثة أن يكون فاعلاً في المجتمع المدني، ومؤسّساً على جملة من المبادئ التي توجّه فهمه الواقع، وترسم كيفيّات تمثّله المستقبل. ويمارس الحزب السّياسي نشاطه في كنف العلنيّة والشفافيّة، وينافس خصومه على استقطاب الأتباع، وعلى الوصول إلى الحكم، وفق برنامج يختاره، ويُجلي فيه مناهج معالجته قضايا الشأن العامّ في المجالات السياسيّة والاقتصاديّة والاجتماعيّة والثقافيّة. ولا يُفترض في الحزب احتكار الوصاية على الدّين، أو ادّعاء امتلاك الحقيقة المطلقة، أو التفرّد بالرّصيد القيمي المشترك للمجموعة الوطنيّة.
والواقع أنّ جُلُّ الأحزاب ذات المرجعيّة الإسلاميّة في العالم العربي لا ترى حرجاً في دمج الدّيني بالسّياسي، وتزاوج بين العمل الدّعوي والعمل التعبوي لأغراضٍ انتخابيّة، فتتمّ دغدغة الشّعور الإيماني لدى النّاس، واستتباعهم على خلفيّة أنّ الحزب سينهل أحكامه من النصّ الدّيني، وسيكون الضّامن لحماية المقدّسات، والمدافع عن الكيانات والمؤسّسات الدّينيّة. ومعلوم أنّ هذا التوجّه في تلبيس الدّين بالسّياسة يؤدّي إلى احتكار طرفٍ مّا المشترك الجمعي والنّطق باسمه، وهو ما يؤثّر على مسارات التّنافس في العمليّة الانتخابيّة، وعلى السّلوك الانتخابي للمواطن.
والناظر في أدبيات حركة النهضة وسلوكها السياسي، قبل الثورة وبعدها، يتبيّن أنّها طوّرت نسبيّاً تصوّرها مسألة العلاقة بين الديني والسياسي، ففي مرحلة الدولة القامعة على عهد الحبيب بورقيبة وخلفه زين العابدين بن علي، تمسّكت الجماعة بطابعها الدعوي، خصوصاً في مرحلة النشأة وبدايات التأسيس، وأكّدت، في بياناتها، أن من أبرز مهامّها "بعث الشخصيّة الإسلاميّة لتونس (...) والمساهمة في بعث الكيان السّياسي والحضاري للإسلام على المستوى المغاربي والعربي والعالمي (...) ومواجهة آثار التغريب". وهو خطاب تبنّى تأكيد "الاتجاه الإسلامي" للحركة، حتّى تسمّت باسمه فترة. وكان المُراد، وقتها، مواجهة سياسات العلمنة القسرية الفوقية التي حاول النظام الحاكم تسويقها، وفرضها على حياة الناس وسلوكهم، فظهرت الحركة في موقع من يريد تجذير البلاد في محيطها العربي الإسلامي، والدفاع عن هويتها العربية. وعلى الرغم من إدراكها أهمّية الإعلاء من قيمة الشأن السياسي في نشاطها، استجابة لتطلعات الناس إلى الحرّية، والكرامة، والتعدّدية، وتغييرها اسمها من حركة "الاتجاه الإسلامي" إلى حركة النهضة سنة 1989، فإنّها استمرّت عقوداً في الدمج بين الدعوة إلى الدين وممارسة السياسة، ما مكّنها من استقطاب أنصارٍ ومتعاطفين كثيرين ضاقوا من تهميش السلطة للشأن الديني، ومن حرصها على مراقبة المتديّنين، وتضييقها على الحرّيات العامّة والخاصّة.
والظاهر بعد الثورة أنّ حركة النهضة أدركت أنّ النّاس لم يثوروا من أجل إقامة دولة دينية.
بل احتجاجاً على الاستبداد وهيمنة الحزب الواحد، والمحسوبية، والظلم، والتوزيع غير العادل للثروة. وثاروا شوقاً إلى إقامة دولةٍ جمهورية، ديمقراطية، عادلة. لذلك، خاضت الحركة معترك الحياة السياسية بعد الثورة، محاولة التخفّف من إكراهات الجمع بين الدين والسياسة، فلم تضمّن برنامجها الانتخابي حديثاً عن إقامة الدولة الإسلامية الموعودة، ورفضت التنصيص على الشريعة في الدستور، وأقرّت حرية الضمير والمساواة بين المرأة والرجل، ودعت إلى تحييد المساجد وإبعادها عن التجاذبات السياسية. والمرجّح أنّ الحركة تتّجه، في مؤتمرها العاشر، إلى التخلّي عن العمل الدعوي، والتفرّغ لمزاولة الشأن السياسي. وفي هذا السياق، يقول رئيس الحركة راشد الغنّوشي: "نحن بصدد التحول إلى حزب سياسي، يتفرّغ للعمل السياسي، ويتخصّص في الإصلاح، انطلاقاً من الدولة، ويترك بقية المجالات للمجتمع المدني ليعالجها، ويتعامل معها من خلال جمعياته ومنظومة الجمعيات المستقلة عن الأحزاب، بما في ذلك النهضة". وفي هذا التوجّه نقلة نوعية في مستوى نقد الذّات، والوعي بأنّ المرحلة السابقة من سيرة الحركة شابها خلطٌ بين ما هو من اختصاصها وما هو خارج اختصاصها (النشاط الدعوي والجمعياتي). وتكمن أهمّية هذا التحوّل في أنّه يرفع اللّبس المتعلّق بهوية حركة النهضة، ذلك أنّه دالّ على اختيارها التموقع داخل المشهد السياسي، والمساهمة فيه بصفتها الحزبية وبمقترحاتها البرامجية، لا بصفتها الدينية، أو أعمالها الدعوية.
وتستجيب حركة النهضة، بلزومها هذا الخيار، لمنطوق الدستور التونسي الذي يحظر تكوين الأحزاب على أساس ديني، ويمنع الجمع بين العملين، السياسي والجمعياتي. وتؤسّس لخطوة جديدة على درب التطبيع مع الدولة المدنية، والمساهمة في تقديم مقترحاتٍ وبدائل لإدارتها وتوجيه سياساتها، من دون ادّعاء امتلاك الحقيقة المطلقة، أو النطق باسم الإسلام. و"النهضة" بفصلها الدعوي عن السياسي، تُفارق، إلى حدّ ما، نماذج الحركات الإسلامية التقليدية القائمة على تلبيس الديني بكلّ مناحي الحياة، وتبدو مسكونةً بهاجس التجديد الداخلي، أكثر منها بهاجس التمترس خلف مسلّماتٍ عقائدية مسبقة. وهي، إذ تتجدّد ذاتيّاً، تستجيب موضوعيّا لدينامية المجتمع التونسي، وحركية القوى المدنية، والتحديثية فيه.

511AC165-C038-4A2F-8C46-0930BBB64EBE
أنور الجمعاوي

أستاذ وباحث جامعي تونسي، فاز بالجائزة العربيّة للعلوم الاجتماعيّة والإنسانيّة لتشجيع البحث العلمي (فئة الشباب) من المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات. له عدة أبحاث وكتب.