معركة النموذجين أولاً

معركة النموذجين أولاً

13 مايو 2016
+ الخط -
بدت مراسلة تلفزيون سما، الموالي لنظام الأسد السوري، كنانة علوش، في حالة نشوةٍ عارمةٍ، وقد التقطت لنفسها "سيلفي" مع جثث ضحايا القصف السوري مواقع "الإرهابيين". يُخيّل للناظر أن "الصحافية" تتنشق أريج أصصٍ من الورود، فتفرج عن أسنانها كاملةً، مبتهجة لمشهد الجثث المحروقة خلفها، ومنتعشة لروائحها.
يتلقى "الإعلامي" المصري، أحمد موسى، اتصالاً من إحدى السيدات من محبي برنامجه تقول، بعد كيل من الشتائم والتهديدات والتخوين لإعلاميين وسياسيين، إنها أعدت كمية من ماء النار، لترشق بها المتظاهرين المحتجين على قرار نقل السيادة على جزيرتي تيران وصنافير من مصر إلى السعودية، لتمرّدهم على "أسيادهم" العسكر. بعد أن يُعاتبها بنعومةٍ خوفاً عليها من ارتكاب جريمة، يشكرها "الإعلامي" على مداخلتها اللطيفة. ويحذّر "الإعلامي" نفسه المتمردين على قرار حظر النشر في قضية اقتحام قوى الأمن مقر نقابة الصحافيين للقبض على صحافيين لجآ إليها، من تداول القضية في وسائط الإعلام الحديث، باعتبار أن النظام يراقبها، وسوف يلاحق خارقي الحظر فيها، لما يعنيه ذلك من خرق لـ "أمن" البلاد.
في الجانب الآخر من الجماعة الصحافية، نموذج مختلف. لبى عدد غير قليل من الصحافيين "المتمردين" دعوة نقابة الصحافيين للاعتصام، احتجاجاً على فعل اقتحام مقرّها، وهو، في رمزيته، يختصر قمع السنوات الأخيرة التي شهدت أسوأ أشكال استخدام الصحافة مطيةً للدعاية للنظام، بما في ذلك تجريد الصحافيين المستقلين من مشروعيتهم المهنية، ومعاقبتهم عبر التكميم، إن لم يكن الاعتقال أو المنع من السفر أو غيرها. "ارتكب" هؤلاء فعلاً في الشجاعة، قل نظيره، حيث أن قرار التمرد على واقع الصوت الواحد في الإعلام يعني أثماناً باهظةً، أولها وأشدّها حملات التشويه التي يمارسها في حقهم زملاء المهنة من رواد الثورة المضادة التي تريد بالصحافة ونقابتها أن لا تكون أكثر من بوقٍ للنظام. ردت المجموعة "الخارجة" على الصوت الواحد على قرار حظر النشر، وهو إجراء استخدمته السلطة مراراً من دون أن يثير ردة فعل تذكر، بقرار تسويد صورة وزير الداخلية التي تحولت إلى "نيغاتيف" ساخر من السلطة. قد تجسّد بشاعة صورة الوزير الجديدة الرد الأمثل على التشويه الذي ألحقه الاستخدام البذيء للإعلام سلاحاً للنظام.
في المستوى الأعلى، تبدو المعركة بين مؤسستين غير متكافئتين في القوة، إلا أن كلتيهما ترتكز إلى مخزونٍ تاريخيٍّ من العمل من أجل الحريات، أو من أجل قمعها. نقابة الصحافة مدعومة بعدد من النقابات، والتي تحولت إلى الناطق الأكثر سطوةً، بلسان المنادين بوقف أشكال القمع، وبين وزارة الداخلية التي تمارس سطوةً غير مسبوقة، مدعومةً بتظاهرات التأييد من "المواطنين الشرفاء" المبدعين في أشكال التأييد السوقي للنظام، من هتافات "ادبح يا سيسي"، إلى إشارات الأصابع البذيئة، ورشق المتظاهرين بزجاجات المياه والتنويه بالجنيهات التي كسبوها رشوةً، لقاء دفاعهم عن "الدولة".
في المستوى الأدنى، والأكثر أهمية بكثير، يدور الصراع بين نموذجين من الصحافيين وأهل المهنة عموماً: الإعلامي البوق الذي لا يتورّع عن ترويج أسوأ أشكال القمع، باسم حماية الدولة من "الإرهابيين"، والإعلامي المتمرّد على هويته المتوارثة، قارع طبل للنظام، أياً كان. بين النموذجين فئة ثالثة صامتة أو خائفة أو غير مبالية، إذ اعتادت عقوداً العمل تحت الأوامر، وبناءً على طلب إدارة المؤسسة الإعلامية ومن فوقها.
المعركة غير متكافئة، إلا أنها على درجةٍ عاليةٍ من الأهمية الرمزية. هل تنجح المجموعة
الثانية في إعادة بعضٍ من مشروعيةٍ مهنيةٍ سقطت، بعدما احتلت المنابر الإعلامية وجوه الفئة الأولى من عملاء السلطة ومخبري الأمن؟ هل تنجح الفئة الثانية، على قلة حيلتها ومحدودية عددها، في استرجاع المبادرة، من أجل ترميم مصداقيةٍ سقطت، بعدما تحولت أعمدة الصحف وبرامج "التوك شو"، وغيرها من منابر توجيه الرأي العام، إلى أدواتٍ لتشويه العقل؟ هل تستعيد النقابة دورها جسماً تمثيلياً للصحافيين، بكل أطيافهم وأعمارهم، فلا يظل الـ"كارنيه" الصحافي امتيازاً لبعضهم، وتنجح في إعادة إحياء مشروعيةٍ أخلاقيةٍ فقدتها، عندما صمتت في وجه انتهاكات النظام وجرائم ضد الخصوم السياسيين من مجزرة رابعة وغيرها؟
معركة الصحافة ونقابتها هي، بالتأكيد، أم المعارك في عودة مصر إلى المسار الديمقراطي، لعملية انتقاليةٍ أغرقت المصريين في قمعٍ غير مسبوق، إلا أنها، أيضاً وأولاً، معركة جماعةٍ مهنيةٍ، لم تأخذ نفسها على محمل الجد، بعد ثورة يناير 2011، ولم تؤمن بأن شعارات التغيير التي جاءت بها الثورة يجب أن تطاولها أولاً. لا يكون هذا التغيير أو التحديث عبر شعارات الحرية الرومنطيقية التي شهدتها مرحلة ما بعد الثورة، وفترة العام الواحد لحكم "الإخوان المسلمين"، ولا عبر تحويل المنابر الإعلامية إلى "هايد بارك" للتعبير عن آراء جهابذة "التوك شو" من موجهي الرأي العام، ولا عبر أشكال التحيز لهذا وذاك، والتي حوّلت الإعلام سلاحاً فتاكاً في التوجيه والدعاية. هل يبدأ الصحافيون المتمردون من حيث يجب أن يبدأوا، من المهنية الحرفية أولاً، وقبل أي شيء آخر؟

A6CF6800-10AF-438C-B5B5-D519819C2804
فاطمة العيساوي

أستاذة لبنانية في جامعة إيسيكس البريطانية. ترأست بحثا في تأثير عملية الانتقال السياسي على الإعلام المحلي في دول الثورات العربية. صحافية مستقلة ومدربة وخبيرة في التشريعات الاعلامية في العالم العربي.