فلسطين.. بوصلة أمة تائهة

فلسطين.. بوصلة أمة تائهة

13 مايو 2016
+ الخط -
عاماً بعد عام، تتراجع أهمية القضية الفلسطينية في الوجدان العربي، ولا تَكَلُّ أنظمة رسمية عربية كثيرة، وهي تحاول تغييب ذكراها، وطمس معالمها، ففلسطين بالنسبة لهم هَمٌّ وعبء، حبذا لو تخلصوا منه. قبل عقود خلت، كانت الانقلابات العسكرية العربية تتمسّح بفلسطين، وتلعن الكيان الصهيوني، وتعلن اقتراب معركة التحرير الشامل، غير أن أياً من تلك الانقلابات لم يكن يضع فلسطين، حقاً، صوب ناظريه، بل كانت فلسطين الذريعة التي يبرّرون بها قمعهم، وديكتاتورياتهم، وتخلف الدول التي يحكمونها، دع عنك الفقر والفساد والانكسارات. أما اليوم، فلم تعد فلسطين، بالنسبة للأغلبية الرسمية، مسوغاً لفساد فاسد، وَتَجَبُّرِ نظام، وإفلاس خزينة، بل على العكس، أصبحت عنوانا للنخاسة، والبحث عن مشروعية أميركية، وتحالف مع إسرائيل ضد "أعداء" من داخل الدار. ذلكم لسان حال الأغلبية الرسمية، من دون أن يعني ذلك أن من يحاولون ستر عوراتهم بورقة فلسطين انقرضوا، ولنا في النظام السوري وإيران وحزب الله نماذج فاقعة.
يقف الشعب الفلسطيني وأمة العرب، اليوم، على أعتاب الذكرى الثامنة والستين لما اصطلح على توصيفها "نكبة فلسطين"، غير أن الحقيقة هي أن ما جرى في الخامس عشر من أيار/ مايو 1948 كان نكبة لأمة العرب كلها، عبر البوابة الفلسطينية. فمنذ ذلك اليوم، لم تهدأ المنطقة العربية، وأنَّى لها ذلك، فغرز الخنجر الصهيوني في أحشائها كان متعمداً لإبقائها تنزف أبد الدهر، وضمان استمرار عجزها عن النهوض والوحدة، وتحقيق استقلال سيادي حقيقي لا موهوم. نعم، لم تكن إسرائيل يوماً تحدياً لفلسطين والفلسطينيين وحدهم، بل كانت، ولا زالت، وستبقى، تهديداً وجودياً لمجمل المنظومة العربية، وعامل استنزاف لها. وستبقى قضايا المنطقة ومصائبها تُفَصَّلُ على المقاس الإسرائيلي، سواء أصالح بعض النظام الرسمي العربي إسرائيل أم عاداها، فإسرائيل ومن وراءها لن يقبلوا إلا بتفوّقها النوعي، وسطوتها على الجميع، ولمن لم يزل غير مقتنع فليخبرنا أين مصر والأردن اليوم بعد عقود من "السلام" مع إسرائيل. أليست مصر لا زالت ترفس في أغلال "كامب ديفيد" وقيودها، والكبت الرهيب، والفقر المدقع، والفساد المنتشر بسبب نُخَبِ "المعاهدة" مع إسرائيل؟ أليس الأردن لا زال في عين الغدر الإسرائيلي عبر إبقاء "مشروع الوطن البديل" خياراً مطروحاً على الطاولة؟
على الرغم من أن إسرائيل تشكل تحدياً لمجمل المنطقة، بعربها، وغيرهم من الإيرانيين
والأتراك، إلا أن قليلين هم من يريدون أن يفهموا ذلك، فإسرائيل حاضرة في جُلِّ، إن لم يكن كل، أزمات المنطقة. هي حاضرة في الصراع السوري، ودورها معلوم في التأثير على صانع القرار الأميركي والروسي في تفصيل قراراتٍ وسياساتٍ كثيرة بما يخدم مصالحها. وهي أيضا، كانت، ولا زالت، حاضرةً في الانقلاب على الثورة في مصر وترويج ذلك الانقلاب ونظامه. كما أن دورها في محاصرة إيران، واستمرار التحريض عليها، إلى اليوم، معروفٌ لا يحتاج إلى إثبات. وكذلك الأمر فيما يتعلق بالعبث مع تركيا في ظل حكومة "العدالة والتنمية"، ومحاولة التنسيق مع اليونان وقبرص ونظام عبد الفتاح السيسي لحصارها في البحر الأبيض المتوسط، دع عنك الإشارات الكثيرة عن تورّطها في دعم الانفصاليين الأكراد.
بل إن أصابع إسرائيل لم تكن بعيدة عن قرار غزو العراق أميركياً عام 2003، وهو الذي أدخل المنطقة في متواليةٍ لا تنتهي من الفوضى. في شهر مارس/ آذار 2003، وهو الذي غزت فيه الولايات المتحدة العراق، قال العضو السابق في مجلس النواب الأميركي، جيم موران، إن اليهود الأميركيين لعبوا دوراً محورياً في قرار الغزو. ويؤكد الكاتب الأميركي اليهودي الشهير، توماس فريدمان، ذلك ضمنياً، لصحيفة هآرتس الإسرائيلية، في أبريل/ نيسان 2003، بالقول: "العراق كان الحرب التي أرادها المحافظون الجدد.. الحرب التي سوّقها المحافظون الجدد.. أستطيع أن أعطيك أسماء 25 شخصاً كلهم يقيمون ضمن مسافة قريبة جداً من هذا المكتب (أين كانت تجري المقابلة في واشنطن)، لو كان تمّ إبعادهم إلى جزيرة صحراوية قبل عام ونصف لما كانت حرب العراق قد قامت". ما لم يقله فريدمان، حينها، أن كثيرين بين هؤلاء الخمسة والعشرين يهود أميركيون، ومنهم من خدم في مناصب رفيعة في إدارة الرئيس السابق، جورج بوش، كدوغلاس فيث، المسؤول الرفيع في وزارة الدفاع الأميركية (2001-2005)، وريتشارد بيرل، رئيس الهيئة الاستشارية للتخطيط الدفاعي (2001-2003)، وبول وولفويتز، نائب وزير الدفاع (2001-2005)، وإليوت إبرامز، المسؤول الرفيع في مجلس الأمن القومي الأميركي (2001-2009).
ما سبق بعض أدوار لعبتها إسرائيل، ولا زالت، لإبقاء تركيبة المنطقة ضمن سياق مصالحها، وهذا مفهوم، لكن غير المفهوم أن يتحول بعض الفلسطينيين والعرب أدواتٍ لتنفيذ المخططات الإسرائيلية وتعزيز مكانة عدوانها.
في الذكرى الثامنة والستين لنكبة فلسطين والعرب، تجد قيادةً فلسطينيةً في رام الله تجاهر، من دون خجل ولا وجل، بــ"التنسيق الأمني" مع إسرائيل، وهي عبارة ملطفة تواري "العمالة الأمنية" لها. ولا يتردّد "الرئيس الفلسطيني"، محمود عباس، بالتباهي بأنه مهندس حصار النظام المصري على قطاع غزة. يجري ذلك في وقتٍ تمارس فيه إسرائيل كل أنواع الجرائم بحق الشعب الفلسطيني، وهي مستمرة في تهويد ما تبقى من أرضه، ولا تترك فرصةً لتدمير "عملية السلام" التي رهنت "القيادة الفلسطينية" الرسمية مستقبل القضية لها، إلا واغتنمتها. أما قطاع غزة المحاصر، فهو منكوب بحصار مصر الرسمية أكثر من حصار إسرائيل، بتواطؤ من "السلطة الفلسطينية". إنه عار على جبين العروبة، لا يمكن توصيفه. وفي وقتٍ تمارس إسرائيل فيه جرائمها بحق الفلسطينيين، ولا زالت تحتل أراضي عربية، تجد بعضاً من أركان النظام الرسمي العربي يخطب ودَّها، علها تكون حليفا في الصراع مع إيران. أما إيران ووكيلها في لبنان وسورية، حزب الله، فبالنسبة لهم، فإن الطريق إلى القدس تمر على جثث الشعب السوري وأشلائه. ألم يقل حسن نصر الله إن "طريق القدس يمر بالقلمون والزبداني وحمص وحلب والسويداء والحسكة".
من مضامين معاني أن بيت المقدس قبلة أولى أن القدس مقياس حالة الأمة العربية والإسلامية، ومن مضامين معانيها أن تكون القدس بوصلة الأمة في ليل مدلهم. لا يحتاج الأمر إلى كثير تفسير، فحال الأمة مزرٍ وبوصلتها تائهة، ذلك أن حال القدس وفلسطين سيئان. ويكفي أن نختم هنا بالتذكير أن شيخ الأقصى، رائد صلاح، يقبع الآن في سجن انفرادي في سجن نفحة الصحراوي، لا لشيء، إلا لتصدّيه، نيابة عن أمة المليار ونصف المليار، لجهود إسرائيل لتهويد الأقصى الشريف، من دون أن يحرّك ذلك رد فعل رسميا عربيا، ولا حتى شعبيا معتبرا. بالمناسبة، رائد صلاح ممنوع من دخول عواصم عربية كثيرة.
هل عرفتم، الآن، ماذا دهى أمة العرب، ولم تعدّدت وتنوعت مآسينا؟