صباحاتنا التي ليست كالصباح

صباحاتنا التي ليست كالصباح

05 ابريل 2016

فنجان ساخن من النسكافيه في الصباح

+ الخط -

أعددتُ، في التسعينيات، برنامجاً إذاعياً أسبوعياً لإذاعة فرنسا الدولية – القسم العربي، بعنوان "صباحات باريسية"، كنت أسجّل فيه، مع فنانين ومثقفين عرب مقيمين في باريس، أجوبتَهم عن علاقتهم بالمكان، ما يمارسونه من طقوسٍ صباحية، وما يساعدهم على إطلاق عدّادات أيامهم في العاصمة الفرنسية.

وبما أنهم كانوا من العرب المقيمين في باريس، وأحياناً منذ عقود طويلة، كنت أستغرب كم كان نادراً أن يتحدثوا من داخل المكان حيث يوجدون، فهم  إما كانوا يروون صباحَهم الدمشقي، أو البغدادي، أو البيروتي أو القاهري، أو التونسي، إلخ، وإما صباحهم الساحليّ أو الجبليّ أو القرويّ، ذاكرين غالباً أمّهاتهم كربّاتٍ لتلك اللحظات البعيدة التي بدت، في توصيفها، أقرب إلى لحظة المجيء إلى الوجود، منها إلى النهوض إلى عالمٍ مألوف. كأنما البُعد، المـُراد أو القسريّ، محوٌ للحظة الولادة، ودخولٌ في عالم الاحتضار والموت، حيث لا يعود الصباح "بدايةً" إلا هناك، فيصير بذلك "نهايةً" طالما أنه بعيد عن تلك الـ "هناك"، أو كأنّ المستوطن بلداً جديداً يغادر الصباحَ كرمز للبدايات، إلى غير رجعة. وإذ يعاني معظم المهاجرين من خللٍ في علاقتهم بالوقت، ينعكس الأمر أحياناً على المكان نفياً أو إنكاراً، أو ربما، في حالات نادرة جداً، فرصةً جديدة للانبعاث.

في بيروت، أصحو اليوم مستذكرة "صباحاتي الباريسية". أفتح النافذة، فتفاجئني رائحة أنفاس المدينة، كريهةً يختلط فيها الليل البائت، بما بصقه شريدو الأحياء المكتظة من بقايا شرابٍ رخيصٍ وأطعمة فاسدة، فوق ما يتراكم فيها من نفاياتٍ، ومحتويات مجارير مبقورة البطون. أقفل النافذة، وأتراجع خطوةً إلى الوراء، سوف أباشر محاولةً أخرى، لأمنح صباحي هذا فرصةً حقيقية للبدء من جديد. لا بأس، يبقى الضوء البهي من خلف الزجاج أزرق، باسماً، يغمرك باعتدال. ضوء خيّر، متوسّطي وربيعي بامتياز.

أعدّ كوباً ساخنا من النيسكافيه - فمنذ أوقفت تدخين السجائر، صرت لا أقترب من قهوتنا السوداء - وأجلس لتصفّح الأنباء، إذ بماذا يبدأ المرء صباحَه ههنا، بغير الأنباء؟ قناة العربية تقفل مكتبها في بيروت وتسرّح نحو 35 موظفاً... اقتحام مكتب صحيفة الشرق الأوسط السعودية في بيروت، وتخريبه، بسبب نشرها كاريكاتور... توقيف أخطر شبكة للاتجار بالبشر في جونية، وتحرير 75 فتاة معظمهن من الجنسية السورية... الطفلة بتينا الرعيدي تلقى مصرعها جرّاء إصابتها أمام منزلها في جبيل برصاصٍ طائشٍ أطلق خلال جنازة...

صباح الخير يا لبنان. صباح الخير لأخبارك "السارّة" التي تمطرنا من كل حدبٍ وصوب. وهكذا دواليك. مليون و200 ألف لبناني تحت خط الفقر. الكرسي الرئاسي فارغٌ منذ دهر. عائلاتٌ بأكملها رُحّلت من الخليج ومهدّدة بالترحيل. يبدو أن البلد يُعاقَب من الجميع، داخلاً وخارجاً، من أبنائه وأشقائه وأصدقائه، من دون نسيان أعدائه بالطبع. إفلاسٌ سياسيّ، انهيار اقتصادي واجتماعي، حربٌ لبنانيةٌ خارج الحدود. مؤسساتٌ إعلامية تُقفل، فساد مستشرٍ، انفلات أمني، حوادث قتل وسرقة، دعارة، أزمة نفايات، أطعمةٌ فاسدة، احتكار، إنترنت غير مرخص له، غلاء معيشة، بطالة، إلخ... يترنّح البلد متهاوياً. هناك من أبنائه مَن بدأ برثائه. لقد انتهى لبنان. أجل. نضب من أي معنى. حسناً. ولكن، ماذا عنّا نحن، وما تبقى من حيواتنا؟  كيف نكفّ عن الحلم بمستقبل أولادنا، وكيف نؤسس لهم مستقبلاً من فراغ؟ كيف نسترزق عيشنا، وكيف نضمن بعدُ تماسكنا، عدم وقوعنا في الجنون، أو عدم الانتحار؟

يبدأ الصباح، على الرغم من نوره الأزرق، رمادياً في لبنان. يبدأ مُرّاً، مُزّاً، مهترئاً. يبدأ بغصّة، بحريقٍ في القلب، بضيق نفَسٍ وانقباضٍ في المعدة. يبدأ الصباح هنا، ويا ليته لا يبدأ. 

نجوى بركات
نجوى بركات
كاتبة وروائية لبنانية ومؤسسة محترف "كيف تكتب رواية"