الانتفاضة الفلسطينية... ست ملاحظات

الانتفاضة الفلسطينية... ست ملاحظات

03 ابريل 2016
+ الخط -
مضت ستة أشهر على انطلاق هبّة الغضب الشبابية الفلسطينية، واستمرار حلقات الاشتباك الفردية والجماعية مع المحتل الإسرائيلي. ما أهم الملاحظات التي يمكن تسجيلها من متابعة أحداث الأشهر الستة؟ وما الدروس المستوحاة من التجربة؟ تسجل هذه المقالة ست ملاحظات رئيسية.
أولاً، أظهرت الأشهر القليلة الماضية بكل وضوح مدى ضعف بنية الأحزاب السياسية الفلسطينية وفعلها وشرعيتها، من يمينها إلى يسارها؛ إذ فشلت هذه الأحزاب "التاريخية" في توفير الإطار المؤسساتي أو الدعم السياسي للشباب المنتفض ضد البنى القمعية المتعدّدة. فشلت في تعبئة الجماهير، وفي تسليح الشباب المنتفض بالتعليم السياسي المناسب والكافي، كما فشلت في تحدّي البنى السلطوية والقمعية لأجهزة أمن السلطة الفلسطينية، وتحدي قرارات قيادتها السياسية. بل إن أحزاباً أظهرت بوضوح عدم اكتراثها أو رغبتها باستئناف النضال الوطني لإحراز الحقوق السياسية والمدنية، وفضّلت إدامة الأمر الواقع المقيت الذي لا يصب في صالح الفلسطينيين. لم تكن أوجه الفشل المتعدّدة هذه فقط بسبب ضعف الأحزاب أو عدم فعاليتها، وإنما الأهم بسبب افتقادها الإرادة السياسية والقرار السياسي المستقل، وربما أيضاً لأن قيادة معظم الأحزاب السياسية الموجودة، وبرامجها السياسية، لا تلبي الحد الأدنى من تطلعات الجماهير، أو أنه انتهى تاريخ صلاحيتها. وبالتالي، تكون شرعية هذه الأحزاب والقيادات دوماً على المحك. وقد تجذّر هذا الضعف للأحزاب السياسية التقليدية في التحولات المصاحبة للبنى السياسية للنظام السياسي الفلسطيني، والبرنامج السياسي لقيادته، وأنظمة الحوكمة المرتبطة به. وبالتالي، الضعف هو فلسطيني ذاتي، ارتبط، بشكل خاص وأساسي، بحالة التشتت والتفتت الفلسطينية الداخلية، والتي ترافقت مع مشروع "بناء الدولة" في الضفة الغربية ومشروع "تجميع القوة وتكريسها" في قطاع غزة.
ثانياً، أوضحت الأشهر الستة الماضية الدور الأمني الإشكالي للسلطة الوطنية الفلسطينية؛ إذ أنها تساند الاحتلال وتشرعنه، بدلاً من المساهمة في إنهائه. وعلى الرغم من الخطابات الطنّانة لقيادة منظمة التحرير حول قرارات اللجنة المركزية للمنظمة بإنهاء التنسيق الأمني مع إسرائيل واحتلالها، إلاّ أن الفعل غلب على الخطاب، وتباهت واحتفلت قيادات الأجهزة الأمنية للسلطة بانضباطها للقواعد الأساسية لعملية التنسيق الأمني. فأفعال (وممارسات) منظمة التحرير والسلطة وأجهزتها الأمنية تشكل أحد أهم أسباب انحسار الفعل الجماعي المشتبك في هبة الغضب الحالية، والتحول باضّطراد نحو الأعمال المقاومة الفردية. فالسلطة الفلسطينية، وهي، بموجب بناها وتعريفها، معادية للثورة والتحرر، قد أضافت معيقاً آخر في وجه الشباب المنتفض في الأرض المحتلة، من أجل إحراز الحقوق السياسية والإنسانية. وهذا الدور الإشكالي للسلطة الفلسطينية ليس جديداً؛ إذ أنه وليدٌ مع نشأتها، لكن إشكاليته تزداد في لحظات الانتفاضات الشعبية، كالتي نشهدها منذ ستة أشهر. في لحظاتٍ كهذه، يُعرّى دور جوهري للسلطة الفلسطينية، والمتمثل في "حماية المحتل والرضوخ للمستعمِر".
ثالثاً، يعاني الشباب الفلسطيني بوجه خاص (البطالة تصل إلى 40%) من درجةٍ عاليةٍ من
الإحباط واليأس والغضب والسخط على حلقات الفشل المستمر وغياب الأفق المستقبلي. وكانت هذه الحالة محط اهتمام مراقبين أمنيين عديدين، حذّروا من مغبّة تحول هذا الإحباط إلى فرصةٍ تسمح لداعش بالوصول إلى فلسطين. ولكن هذا الاستنتاج الضعيف والمدفوع أمنياً، وغير المستند على الدلائل، يمكن دحضه بمجرد النظر إلى نتائج استطلاعات الرأي، والتي تشير، بوضوحٍ شديدٍ، إلى أنه لا متّسع لداعش في فلسطين، ولا أرضية خصبة لها، بين الفلسطينيين. إذ أفاد استطلاعٌ للرأي، أنجزه مركز القدس للإعلام والاتصال، وظهرت نتائجه في منتصف مارس/ آذار 2016 بأن لدى حوالى 82% من الفلسطينيين آراء سلبية حول "داعش"، وبأن الأغلبية تؤمن بأن "داعش" تضر بالقضية الفلسطينية. وأفاد استطلاع آخر، أنجزه المركز الفلسطيني للبحوث السياسية والمسحية، وظهرت نتائجه في أواخر مارس/ آذار 2016، بأن 88% من الفلسطينيين يستنكرون أعمال "داعش"، ويرونها مجموعة متشددةً، لا تمثل الإسلام الحقيقي الصحيح.
رابعاً، وعلى الرغم من تضحيات الشعب الفلسطيني المتتالية، إلاّ أن قيادات حركتي فتح وحماس ترفضان الوصول إلى مصالحةٍ وطنيةٍ حقيقية، فالانقسام المتجذّر لم يُجسر، على الرغم من انتفاضات الشباب على الأرض، وكل التضحيات الأخرى، والذي يشير إلى أريحية الحالة القائمة والأمر الواقع لكلا الطرفين، حركتي فتح وحماس. إذ أن كليهما يفضل الأولويات الإقليمية والدولية على حساب المصالح والاحتياجات المحلية. ومفاوضات الدوحة دليل آخر على غياب الإرادة الحقيقية لدى الطرفين للوصول إلى المصالحة. وبالتالي، هما مصّران على الفشل. وعليه، فإن المحاسبة الشعبية لكليهما هي المفصل الأهم لإعادة ترتيب أوراق السياسة الداخلية الفلسطينية، فمحاسبة الطرفين على كل الأذى الذي لحق بالمشروع الوطني الفلسطيني، بسبب اقتتالهما على سلطة وهمية، ضرورة وأولوية وطنية ملّحة في هذه المرحلة.
خامساً، دلت الأشهر الستة الماضية على الفجوة الكبيرة بين الناس وأصواتهم والسلطات (النخبة السياسية الحاكمة) وقراراتهم. وهي تشير إلى درجة البعد الكبيرة لأفعال (وخطاب) السلطة الفلسطينية ومنظمة التحرير وقياداتها عن تطلعات الشعب الفلسطيني ومطالبه في الضفة الغربية وغزة، ناهيك عن البعد المتناهي مع فلسطينيي الداخل المحتل والمنفى. فمن شاهد المقابلة التلفزيونية التي أجرتها أخيراً "دويتشه فيله" (إذاعة صوت ألمانيا) مع رئيس وزراء السلطة الفلسطينية، رامي الحمدالله، يدرك تماماً حجم الفجوة؛ إذ تبين أن القيادات والشعب يعيشان على كوكبين مختلفين. لكن هذه الملاحظة لا يجب أن تفاجئ أحداً؛ إذ أنها النتيجة الطبيعية لنظام سياسي مهترئ، يهمّش الناس، ويديم بُناه، بطرقٍ قمعيةٍ وغير ديمقراطية.
سادساً، يتوقع مراقبون عديدون دوراً قريباً وفاعلاً للأجنحة العسكرية للفصائل الفلسطينية والمجموعات الأخرى المسلحة في الانتفاضة المندلعة حالياً، لكن استنتاجاً وتوقعاً مجرّداً كهذا يهمل نقطتين مهمتين، تتعلقان بتبعات مشروع إصلاح الأجهزة الأمنية للسلطة الفلسطينية، كجزء من مشروع بناء الدولة، إضافة إلى محادثات "السلام" المعهودة، والتي عادة ما تتبع أي انتفاضة فلسطينية، أو تنهيها.
فمنذ عام 2007، وكجزء من مشروع بناء الدولة للسلطة الفلسطينية، مُنح القطاع الأمني الأولوية القصوى على المستويين، المالي والسياسي، فقد هدفت العمليات الأمنية وحملات نزع السلاح، وخصوصاً في "قلاع المقاومة" في الضفة الغربية المحتلة، لتجريم المقاومة المسلحة وتدمير البنية التحتية والأدوات المتاحة للمقاومة العسكرية للاحتلال الإسرائيلي. وللتحقيق الجزئي لهذين الهدفين (تجريم المقاومة المسلحة وتدمير بنيتها التحتية) تبعاتٌ مباشرةٌ على قدرة الأجنحة العسكرية للفصائل الفلسطينية على الفعل الفعّال، وهو استنتاج، على الرغم من وضوحه، إلا أنه نادراً ما تلتفت إليه التحليلات المدفوعة أمنياً. ولكن، تجدر الإشارة، في هذا الصدد، إلى أن الفلسطينيين قد يجدون أنفسهم مرغمين على التعامل مع اقتتالات عنيفة ودموية، بسب الانشقاقات الداخلية لحركة فتح أو بسبب الحسابات الإقليمية. وعندها، سيخرج سلاح الاقتتال إلى الساحة بشكل يسير وسريع. أقطاب الصراعات الداخلية، وخصوصاً في "البيت الفتحاوي" يتهيأون، ويعطون الأولوية لحساباتهم الشخصية والحزبية الضيقة، على حساب الكل الفلسطيني.
أخيراً، تفيد الدلائل والقرائن، على مر العقود الثلاثة الماضية، بأن الانتفاضات الفلسطينية قد أُنهيت أو أُلحقت بمحادثات ومبادرات "سلام". والكلام والضوضاء حول المبادرة الفرنسية للسلام مثالٌ على ذلك. ومع أننا نعرف القليل عن هذه المبادرة "غير المرئية"، إلا أنه من الواضح أن معايير السلام القديمة البالية ما زالت تراوح مكانها بقواعد اللعبة نفسها، وباللاعبين أنفسهم الذين سقطوا على مر العقود الماضية في "صناعة السلام". وبالتالي، ليست مبادرة السلام الفرنسية هذه مدعاة للأمل؛ فمن يبحث عن الأمل عليه/ عليها البحث في مواضع أخرى.
F5CB8409-A449-4448-AD7A-98B3389AADB7
علاء الترتير

كاتب فلسطيني، مدير البرامج في شبكة السياسات الفلسطينية، وباحث في المعهد العالي للدراسات الدولية والتنمية في جنيف. عمل باحثاً ومدرّساً في جامعة لندن للاقتصاد والعلوم السياسية والتي حصل منها على الدكتوراه.