يوتوبيا اللعب والعمل

يوتوبيا اللعب والعمل

13 ابريل 2016

ماركس.. تفكير نقدي ومختلف (Getty)

+ الخط -
ستتذكّر البشرية القرنَ العشرين كأكثر عصور التاريخ همجية وتقتيلاً. ففيه اندلعت الحربان العالميتان الأولى والثانية، وجرى تفجير قنبلتين ذريتين بالشعب الياباني، وشهد العالم المجازر التي ارتكبها النازيون والصهيونيون والصرب والراونديون. وهذا القرن هو الابن الطبيعي للرأسمالية المتوحشة التي حملت معها إبادة الهنود واسترقاق السود والصراعات الإثنية في الدول الفقيرة. لكن القرن العشرين نفسه شهد، في المقابل، غروب الاستعمار وبزوغ عصر الشعوب، ونهوضها نحو الاستقلال والتقدم والعدالة الاجتماعية.
خلف 500 سنة من الاستعمار، ثمّة 500 سنة أخرى من النهضة العلمية والابتكارات العظيمة في الفكر والأدب والطب، دشنتها حقبة الثورة الصناعية، غير أن همجيةً جديدة تحيق بنا اليوم؛ إنها الهمجية التي تمارسها الرأسمالية، باسم الحرية والديمقراطية وقيم "العالم الحر".
كم هو مخادع مصطلح "العالم الحر" هذا، وكم هم حمقى الذين يؤمنون به. إنه، في الحقيقة، العالم الغني وكفى. إن ما نخشاه ليس انتصار قيم العالم الحر، بل هزيمة الإنسان. فإذا كان الكلب الأميركي ينفق أكثر من الإنسان الهندي الفقير، فعلى الدول الفقيرة أن تتوقف عن دفع ديونها إلى الدول الغنية. وإذا كانت الرأسمالية غمرت العالم كله بقوة الاقتصاد والعلم، وسارت به نحو الكوكبة، فإن الإنسان مرصودٌ للتطلع إلى يوتوبيا إنسانية جديدة، ستكون كوكبية بالضرورة.
كان العمل عنصراً من أربعة عناصر، تشكل بنية الإنتاج الرأسمالي، كما شرحها ريكاردو وآدم سميث. وهذه العناصر هي: العمل والرأسمال والأرض والتنظيم. وكانت الأرباح تُوزّع على الشكل التالي: الأجور للعمل، والفائدة للرأسمال، والريع للأرض، والمرتبات للتنظيم. وقد رأت النظرية الاقتصادية الكلاسيكية في هذه القسمة عدالةً حقيقية، ووجد المفكرون الكلاسيكيون في النظام الرأسمالي التعبير الأكمل عن العدالة التي انتظرتها الإنسانية. لكن مفكراً من طرازٍ مختلف، يُدعى كارل ماركس، تمكّن من تفكيك هذه النظريات، وفضح خداعها في أعمق نقدٍ لرأسمالية القرن التاسع عشر، فاستنتج أن الرأسمالية ليست هي النظام الأكمل للعدالة الإنسانية، بل هي نظام للسيطرة، وإن الاغتراب الإنساني في ظل الرأسمالية لن يتوقف، بل سيزداد. وهذا الاغتراب ليس في الإمكان التخلّص منه، ما دامت الرأسمالية تتحكّم بحياة البشر. ويمكن إنهاء عصر الاغتراب فقط، عندما يتحوّل العمل إلى لعب، ويكفّ عن كونه وسيلةً لخلق فائض القيمة.
أخلف التاريخ اللاحق في القرن العشرين وعوده، وخابت توقعات كارل ماركس، وما عادت أفكار القرن التاسع عشر صالحةً لتفسير المتغيّرات المتسارعة. لكن الجوهر النقدي لتفكير ماركس ما زال هو هو: لا بد من ثورةٍ إنسانيةٍ كونية تتيح، لأول مرة في تاريخ البشرية، عدالةً شاملةً وحرياتٍ غير منقوصة للأفراد، بحيث ينتهي عصر العمل، ويتحول إلى عصر اللعب والبهجة والإنتاج الوفير وتلبية الحاجات المتسامية للإنسان، وهذه يوتوبيا متخيّلة.
لنرَ ماذا فعلت الرأسمالية بالعلاقات الاجتماعية والاقتصادية والتبادلية في عصرنا المذهل. إن الإنجاز الرئيس للرأسمالية هو الإحلال الهمجي للآلة محل الإنسان. وهذا الإحلال المتمادي حوّل حياة الناس إلى جحيمٍ حقيقي. إنه الاغتراب المؤلم في أبشع صوره الإنسانية. وفوق ذلك، حوّلت الرأسمالية الأفراد الذين يفقدون وظائفهم من عاطلين عن العمل في النظام الرأسمالي التقليدي إلى رعاعٍ في المدن الكبرى، حيث تتزايد، باضطراد، جرائم القتل والسرقة والدعارة والمخدرات... إلخ. ولعل التكفيريين في المدائن الغربية نشأوا في خضم هذه العملية التهميشية الطاحنة.
هذه هي الرأسمالية اليوم التي تحاول إعادة صوغ العالم على مثالها. صحيح أن العالم يتحول إلى قريةٍ صغيرة، لكنه لا يتحول إلى جماعةٍ منسجمةٍ ذات مصالح متآلفة. فالصراعات تزداد عمقاً، والتفاوت بين مَن يملكون مصادر الحداثة وأدواتها ومَن لا يملكون صار أداةً للسيطرة. إنها، بكل وضوح، سيطرة مطبقة على العالم. وهذا العالم بات عالماً واحداً، لكن بهمجيات كثيرة.