28 فبراير التركي و3 يوليو المصري

28 فبراير التركي و3 يوليو المصري

12 ابريل 2016

محمد مرسي ونجم الدين أربكان

+ الخط -
أحيت تركيا، نهاية شهر فبراير/ شباط الماضي، ذكرى انقلاب 28 شباط 1997 الناعم الذي خيّر فيه العسكر رئيس الوزراء المنتخب آنذاك زعيم حزب الرفاه ذا التوجهات الإسلامية، نجم الدين أربكان، بين الاستجابة لشروطهم، أو الاستقالة، فاختار، بوعي عميق وعقل استراتيجي، الخيار الثاني، مجنباً بلده مصيراً كارثياً شبيهاً بالذي تعيشه مصر حالياً.
بعد عام تقريباً على انتخابه في 1996، وفي مطلع العام التالي، قدم العسكر مذكرةً، أو بالأحرى، لائحة شروط وإملاءات للرئيس أربكان، تضمنت بنوداً سياسية اقتصادية اجتماعية وقانونية، لتنفيذها. وجد أربكان أن هذه الشروط تتنافى مع قناعاته، ضميره ومبادئه كما التفويض الديمقراطي الممنوح له من الشعب، ففضّل الاستقالة والخروج من السلطة، وحتى الذهاب إلى السجن بعد ذلك على تطبيقها.
عندما اتخذ الرئيس المتتخب قرار الاستقالة، فعل ذلك، كما قلنا، بحكمة ووعي، وهو أراد تحقيق عدة أهداف سياسية واضحة، وتجنيب بلاده النفق المظلم، إذا ما عاد العسكر إلى السلطة فعل بشكل صريح وفظّ، كما فعلوا عامي 1960 و1980 من القرن الماضي.
أراد أربكان منع العسكر من تسلم السلطة بأي وسيلة، وبأي ثمن، حتى لو كان ذلك خروجه شخصياً من الحكم، وربما حتى من الحياة السياسية برمتها، هو فهم بحسّه الاستراتيجي ووعيه الدقيق بالتاريخ، أن استلام العسكر السلطة سيؤدي إلى كوارث على كل المستويات، ويعيد البلد سنواتٍ، بل عقوداً، إلى الوراء، وهو أراد أيضاً إبقاء العملية السياسية والمسيرة الديمقراطية على السكة الصحيحة، ورأى، أيضاً، أن أي ثمنٍ سيدفعه مناسب، وحتى عادل قياساً إلى الهدف السامي الذي أراد الوصول إليه، المتمثل بالحفاظ على الاستقرار والسلم الأهلي، ولو بحدوده الدنيا.
سعى الرئيس أربكان كذلك إلى عدم إقحام الجيش في السياسة بشكل فظّ وعنيف، أو حرفه عن مهامه الرئيسية، المتمثلة بحماية الأمن القومي للبلاد، وهو رفض التشكيك بوطنية الجيش أو ولائه، أو إدخاله في صداماتٍ وحروبٍ داخليةٍ، ستكون مدمرة له وللبلاد على حد سواء.
عمل الرئيس أربكان، أيضاً، على حماية جمهوره، وعدم الزجّ به في معركةٍ مؤلمةٍ قاسيةٍ داميةٍ وباهظةٍ مع الجيش والقوى الأمنية، وهو طالبه بالتعقل والهدوء والتزام البيوت، وعدم النزول إلى الشارع، وقال إنه واثقٌ من وجود أخوةٍ رفاق وتلاميذ قادرين على إكمال المسيرة، وإنجاز الأهداف التي سعى إليها حزب الرفاه، وخاض الحياة السياسية على أساسها، وتضمنها برنامجه الانتخابي، خصوصاً في شقّه الاقتصادي الاجتماعي الذي حظي بثقة الجمهور ورضاه في انتخابات 1996.

بعد الانقلاب الناعم، وعلى الرغم من تجميع أربكان تواقيع أغلبيةٍ نيابيةٍ طالبت بإعطاء نائبته وزيرة الخارجية، تانسو تشيلر، حق تشكيل الحكومة، وهو ما رفضه الجيش، بعدما فهم أيضاً أن زمن الانقلابات العسكرية المباشرة قد ولّى، مفضّلاً تشكيل حكومة أقليةٍ بزعامة مسعود يلماز، ما أدخل البلاد في حالةٍ من الفوضى وعدم الاستقرار السياسي والاقتصادي، استمرت إلى حين وصول حزب العدالة والتنمية إلى السلطة في العام 2002.
عمل الجيش الذي أراد الانتقام من أربكان، والتنكيل به، كذلك على تلفيق قضية فسادٍ وهميةٍ له، ما أدى الى إدانته، والحكم عليه بالإقامة الجبرية (بدلاً من السجن لكبر سنّه)، ومنعه من مزاولة العمل السياسي خمس سنوات، كما جرى حلّ حزب الرفاه، ما دفع تلاميذه إلى تأسيس حزب الفضيلة، ثم حزب العدالة والتنمية.
عند تأسيس حزب الفضيلة، فهم رجب طيب أردوغان ورفاقه أن المعلم أربكان أدى مهمته على أكمل وجه، وأن الجيش لن يسمح له بمزاولة العمل السياسي مرة أخرى، وأنه سيتحول إلى عبء على الحزب الوليد، وأن الأمر بات بحاجةٍ ليس إلى اجتهاد تنظيمي مؤسساتي فقط، وإنما إلى اجتهاد فكري سياسي أيضاً.
رفض القادة البارزون للحزب الوليد آنذاك، أردوغان وعبد الله غول وبولنت أرنتش، تحكم أربكان بالحزب (الفضيلة) من الخارج، وتدخّله في الانتخابات لصالح طرفٍ ضد آخر، والأهم أنهم فهموا واستوعبوا الحاجة إلى تصالح تاريخي مع الجمهورية، أو بالأحرى الأسس السياسية الفكرية لجمهورية أتاتورك. ولكن، مع تحديثٍ أو تعديلٍ يقبل العلمانية، ويرفض خلط الدِّين والسياسة، ويرفض أيضاً قمع القيم أو المعايير الإسلامية للشعب التركي.
عبر أردوغان عن ذلك صراحةً بقوله: "نحن لا نخلط الحزب بالدِّين، ولا الدين بالسياسة. لسنا حزباً ثيوقراطياً، ولا نريد إقامة دولة إسلامية، وإنما إقامة المجتمع المتحضّر المتطور الذي أراده أتاتورك. ولكن، من دون إلغاء أو القطع مع القيم والمعايير الإسلامية لـ99 بالمائة من الشعب التركي".
للتذكير، لم يكن نجم الدين أربكان يتحدث بهذه اللغة أو الصراحة، وهو أراد إعطاء طابع إسلامي واضح لحزب الرفاه ثم الفضيلة، وحاول، بالتأكيد، تجاوز الأسس العلمانية لجمهورية أتاتورك، وليس ذلك فقط، فهو لم يأخذ، حتى على محمل الجد، فكرة الانضمام للاتحاد الأوروبي، ولا حتى الغرب بشكل عام. وسعى، آنذاك، إلى تشكيل مجموعة السبع الإسلامية الكبرى، والتوجه نحو الشرق بشكل عام، ما مثل، في الحقيقة، أحد أسباب إطاحته من الجيش، حارس العلمانية وفق دستور 1980.
ضبط البوصلة أيضاً وفق المصطلح الشهير للزعيم الماليزي، مهاتير محمد، تجلى بانكباب أردوغان ورفاقه، مع مغادرة حزب أربكان (الفضيلة) وتأسيس حزب العدالة والتنمية، على العمل التنموي والنهوض الاقتصادي الاجتماعي، والابتعاد قدر الإمكان عن الجدل الأيديولوجي مع الجيش وأذرعه المختلفة السياسية القضائية والإعلامية، وهو ما انعكس مباشرةً في جملةٍ من الإنجازات، وضعت تركيا ضمن الدول المتطورة والناهضة، ومضاعفة ناتجها القومي ثلاث مرّات تقريباً في ظرف 13 عاما فقط.
عاشت مصر في 30 يونيو/ حزيران 2013 لحظة شبيهة بلحظة 28 فبراير/ شباط التركية، غير أنه وقع، للأسف، عجز وقصور عن فهم اللحظة ودلالاتها الاستراتيجية. وبالتأكيد، لم يقع استخلاص العبر والاستنتاجات المناسبة. وعلى الرغم من إنذار الجيش، المدعوم شعبياً، الصريح والواضح بالانقلاب، تم تسليمه السلطة على طبقٍ من ذهب، بل وزجّ الجمهور الإخواني في معركةٍ لا داعي لها معه، كانت نتائجها أصلاً بادية مع القول الشهير للجنرال عبد الفتاح السيسى "إذا نزل الجيش للشارع، فسيبقى ربما تلاتين عاما، وسيمارس المهنة الوحيدة التي يجيدها، القتل".
كان الأمر في مصر، كما في تركيا، بحاجة لاجتهاد فكري سياسي، والحيلولة بأي ثمن دون تسلم الجيش السلطة، لضمان بقاء الحياة السياسية في مسارها المدني السلمي والديمقراطي واجتهاد تنظيمي، أيضاً يتعلق بضرورة، بل حتمية الفصل التام بين "الإخوان المسلمين" كجماعة وذراعهم السياسي الحزبي، والاقتناع التام بأن المادة الثانية من الدستور، الإسلام هو المصدر الأساسى للتشريع، هي أقصى ما يمكن الوصول إليه، وأن لا مجال سوى لدولةٍ مدنيةٍ ديمقراطية، يمارس فيها الإسلاميون، أو السياسيون ذوو الخلفيات الإسلامية، العمل السياسي، بوصفه حقاً طبيعياً وديمقراطياً على قدم المساواة مع بقية الفرقاء والأطراف السياسية الأخرى.
الفرق بين 28 فبراير/ شباط التركي و3 يوليو/ تموز العربي، هو نفسه الفرق بين الازدهار والتطور الذي عاشته تركيا في العقد الماضي، وما عانته وستعانيه مصر، للأسف في العقد الحالي، حيث تدور معركة دامية قاسية ومدمرة، كان في الوسع تلافيها، وبات الثمن باهظاً جدّاً ومكلفاً على كل المستويات، لإعادة الحياة السياسية والديمقراطية إلى طبيعتها، الأمر الذي كان في متناول اليد، مساء الثاني من يوليو/ تموز 2013، قبل الانقلاب المشؤوم في اليوم التالي.