الحاجة إلى مفاهيم جديدة

الحاجة إلى مفاهيم جديدة

12 ابريل 2016
+ الخط -
صَدَمَ الفيلسوف الأميركي، فرانسيس فوكوياما، العالمَ بكتابه "نهاية التاريخ والإنسان الأخير" الذي كتب فيه إن ديمقراطية الغرب وليبراليته هما أقصى ما يمكن أن تبلغه البشرية من تطور، متجاوزاً قابلية التحديث على الإرث الفلسفي الذي تركه لنا علماء السياسة الغربيون، على شكل نظرياتٍ حاكت أوضاعاً سياسية، وتحزبات كانت ملائمة لزمنها..
ما وَصَل إلينا عن أفلاطون جعلنا نعتبر أنه كان رائد الفلاسفة. وقرأنا شذراتٍ من أفكاره المسهبة في تخيل دولةٍ مثاليةٍ ضمن كتابه "المدينة" أو "جمهورية أفلاطون"..
مثْل أفلاطون، حاكى توماس هوبز، أبو الواقعية، طبيعة البشر، متخذاً النفس الإنسانية مُنطلقاً لشكل الدولة أو الجمهورية المنشودة، لكنه أسبغ على نظريته من روح عصره وأحداث قرنه السابع عشر، فابتعد عن مثالية أفلاطون، وألصق صفاتٍ مبرمة بالنفس كنزوعها للسلطة، واحتكامها للأهواء وميلها إلى الادعاء.
اعتمدت النظرية الواقعية مبدأ القوة وزيادتها "maximization of power" لتحقيق مصالح الدولة، واستنبطت من كتاب "الأمير" لميكافيلي أفكاراً ترسّخها، كمبدأ سلطة الحاكم المطلقة، ثم جاءت الواقعية الجديدة لسد ثغرات الواقعية المجرّدة التي فشلت في تفسير الخسارة العسكرية التي لحقت بالولايات المتحدة في فيتنام، حيث لم ينفع التفوق الكبير بالقوة.
لم تعد الدولة اللاعب الوحيد في النظام الدولي عند آدم سميث مؤسس الليبرالية، بل اشتركت المنظمات الدولية الحكومية وغير الحكومية والشركات متعددة الجنسيات بالتأثير في السياسات الداخلية والخارجية للدول، واستبدلت استخدام القوة، في تحقيق المصالح، بالتعاون.
فرَّخ عصر ما بعد الثورات الأوروبية مفكرين طوّروا النظريات السابقة، وحاكوا واقعاً اجتماعياً أخذ في الاعتبار مآلات نفسيات بشرية عانت الكثير من حوادث الموت وصور الدماء التي رافقت الثورات.. ونتجت عن ذلك نظرياتٌ وقائية، متطرّفة أحياناً، مثل نظرية "المجرم النموذج" التي كانت سبب شهرة الطبيب الإيطالي والمنظر الاجتماعي، سيزار لومبروزو، حيث يُعتبر الشخص، وفق النظرية، مجرماً، ويحتاج إلى تدبيراتٍ احترازية، لسبب وحيد، أنه يحمل صفاتٍ فيزيولوجية ونفسية، تنطبق على مواصفات رجل لومبروزو المجرم.
حازت النظريات السابقة انتشاراً كبيراً في الغرب، في مقابل نظرياتٍ أخرى، شرقية تبناها الاتحاد السوفياتي، وبعض الدول الهائمة في فلكه، جاءت على لسان أهم منظري الشيوعية، كارل ماركس.
أخذ العرب مما جاء في هذه النظريات. لكن، بشكل ممسوخ، وحاولوا إدراج تلك القيم على مجتمعاتنا المحافظة. والحقيقة أننا وقعنا في تناقضاتٍ كثيرةٍ، في كل مرة نحاول فيها أن نطبخ قانوناً أو دستوراً. ولهذا أسباب موجبة، إذ لا يزال فهم معنى الديمقراطية، أو خطوات تطبيقها غائماً، وكذلك الأمر بالنسبة لما هو أكثر تعقيداً، كأفكار الليبرالية والشيوعية.
بعكس ذلك، ابتكر "الإخوان المسلمون" أدبيات أصيلة، لكنها أيضاً لم تلقَ، لرجعيتها، قبولاً عاماً في أوساط منظريها، فغياب الأيديولوجيا فيها لصالح الثيولوجيا التي تَعتبر ما تقرّه مقدساً، أو إلهياً، سبب جوهري لتوجس الناس منها، في عصرٍ تدغدغ فيه الفضائيات والإعلام الغربي والعربي أُذني المواطن بمصطلحات الحرية والديمقراطية. مع ذلك، صمد الفكر الإخواني عقوداً في وجه محاربيه الأشداء من الدكتاتوريين العرب، وما زال له أتباع، بسبب كونه نسخة "أورجينال" غير مقتبسة من الخارج، ولم يوجد بديل فكري محلي يدحضها. فمنظرو "الإخوان"، وفي مقدمتهم حسن البنا، خلَّفوا أدبياتٍ تجبر كل راغبٍ في الفهم، حتى لو كان أميركياً، على العودة إلى ما كتبه البنا وسيد قطب، بينما لا يعود طالب التعمق في الفكر الليبرالي أو الشيوعي لكتابات محمد البرادعي أو محاضرات خالد بكداش.
باستثناء محاولات تنظير قومية وإقليمية متهافتة، الحالة العامة قائمة على الاستيراد، باتجاهٍ واحد، من الغرب، منذ بدايات العصر الحديث. وهذا أحد مسببات الضياع الذي نحن فيه، وسيكون تحفيز تطوير أفكار ونظريات محلية، أو ملاءمة مدروسة للمقتبس، مجدياً في التخلص من حالة الفصام الراهنة. ولا أعتقد أن زمناً أكثر من زمن الثورات العربية قد ينفع لذلك.