"وقاحة" تقارع القمع

"وقاحة" تقارع القمع

10 مارس 2016
+ الخط -
كان الباحث الإيطالي، جوليو ريجيني، الذي قضى تحت تعذيب وحشي، بعد اختفائه في القاهرة، "وقحاً" بحسب رواية مصادر في الشرطة المصرية لصحيفة نيويوك تايمز. لم يرتعد خوفاً عندما خاطبه الشرطي. لا نعرف تفاصيل "وقاحة" الشاب، إلا أنه من السهل تصور أنه لم يطأطئ رأسه طلباً للنجاة، كما هي العادة في العالم العربي في مقاربة رجال الأمن، بل على العكس قد يكون سأل رجل الشرطة إن كان لديه تبليغ رسمي لتوقيفه، أو أنه اعترض غاضباً على توقيفه باعتباره غير قانوني. قد تكون "الوقاحة" بلغت به حد أن يقول لرجل الأمن بلباس مدني: أنت مين؟ الباحث الإيطالي قدّم نفسه لرجل الأمن على أنه رجل "قوي"، فكان لا بد أن يدفع ثمن "وقاحته". لا تزال السلطات المصرية تنفي أي مسؤولية في مقتل الباحث الشاب، في حين أظهر تقرير تشريح الجثة آثار تعذيبٍ وضرباتٍ على ثلاث دفعات، في أوقاتٍ مختلفةٍ، ما يدل على أنه أخضع لاستجواب أدى إلى موت بطيء مرعب. في حين لا تزال الرواية الرسمية تحاول تشويه سمعة الباحث، عبر الإيحاء بأنه قتل في عملية انتقام شخصي، تبين أن المسؤول عن التحقيق في مقتل جولياني هو نفسه مدان بأعمال تعذيب.
تزايدت تعبيرات "الوقاحة"، في الآونة الأخيرة، ومعها ردات الفعل الرسمية لقمع هذه التعبيرات. ساهم مقتل جولياني تحت التعذيب في خروج قصص معتقلين عديدين إلى وسائط التواصل الاجتماعي التي باتت تعج بصور معتقلين شبان، طلاب جامعيين، مهنيين، محامين، صحافيين... يشكل تناقل قصص معاناتهم في السجون وسيلةً للتذكير بأنهم لا يزالون على قيد الحياة، وأن معاناتهم لن تذهب من دون ثمن. إلى قصص التعذيب السادية التي ينقلها الأهالي، ويتجرأ بعض المعتقلين على روايتها، وهم تحت سطوة السجان، جاءت قصص عائلاتهم ورحلة الانتظار المريرة أمام مراكز الاعتقال، لتضيف بعداً إنسانياً جديداً إلى رواية الظلم باسم العدالة. قصص أمهات وأطفالهن يسافرون ليلاً إلى المعتقلات البعيدة، على أمل لقاء يستمر دقائق مع معتقلين، بعد انتطارٍ ساعاتٍ أمام مراكز الاعتقال.
تزداد تعبيرات "الوقاحة" في مواجهة القمع، وتأخذ أشكالاً متنوعة، تؤكد وجود حيويةٍ ما تنافي خطاب "الاستقرار" الذي يشيع له الإعلام التقليدي. أعلن معتقلو سجن العقرب الرهيب إضراباً عن الطعام، احتجاجاً على ظروف اعتقالهم اللاإنسانية التي تشبه الموت البطيء. لم تنفع تهديدات السجانين في زعزعة عزيمة المعتقلين الذين أعلنوا "الموت من أجل الحياة". وكانت فضحية إنزال عقوبة السجن المؤبد في حق طفل في الثالثة من عمره عن طريق الخطأ، وحادثة قتل سائق سيارة أجرة برصاص شرطي، بعدما رفض الأخير دفع تكلفة نقله أحدثت شرخاً في صمت الإعلام عن الانتهاكات المتدامية، وتصويرها وكأنها حوادث فردية لا تشكل ظاهرة عامة في أداء رجال الشرطة. كتبت مجلة "تايم" الأميركية أن حكم المحكمة العسكرية على الطفل يؤكد خروج سلوك الأمن المصري عن السيطرة. ولكن، لا يبدو أن تعبيرات الاحتجاج على أشكال التعذيب المقذعة في السجون ومراكز الاحتجاز نالت من عزيمة وزير العدل الذي يبحث في إصدار قانون يعاقب والد "الإرهابي" ووالدته، أو من تولى تربيته، لتقاعسهم عن واجب تأديبه.
نجحت نقابة الأطباء المصرية في تحويل الاحتجاج على تعرّض طبيبٍ، للضرب على يد رجل
أمن إلى حالة جامعةٍ للغضب الشعبي من الانتهاكات المتمادية لدولة الأمن، كما نجحت في الرد على محاولات الإعلام شيطنة الحركة. بادرت نقابة الصحافيين إلى تنظيم حركة احتجاج مماثلةٍ على التوقيف التعسفي لصحافيين، تحت عنوان "الصحافة ليست جريمة"، أدت، ولو من دون نجاح كبير، إلى تسليط الأضواء على القيود على عمل الصحافة، وإلى تحسين ظروف الاعتقال في بعض الحالات. ساهم مشهد السيدة المشاركة في الاعتصام في ثوب الزفاف الأبيض، احتجاجاً على اعتقال خطيبها قبيل زفافها في تجسيد عبثية حالات الاعتقال التعسفي، وانعكاسها على حياة شريحة كبيرة من المصريين، بما يدحض مقولة انحسار نطاق إجراءات القمع في مجموعة محدودة من المصريين. لم يمنع ذلك استمرار حالات الاعتقال التعسفي والاختفاء القسري، ومنها توقيف صحافي في جريدة البديل، أخيراً، من منزله، ونقله إلى وجهة مجهولة.
لم تتوقف الفكاهة في أن تكون الوجه الأكثر شجاعة لـ "الوقاحة" التي يعبر عنها مواطنون رداً على "وقاحة" إجراءات القمع التي تجاوزت ملاحقة من يسمون "الإرهابيين" إلى حالات مثل توقيف فتيان أقباط بتهمة "إهانة الإسلام"، والحكم على الكاتب أحمد ناجي بالسجن عامين بتهمة "خدش الحياء العام" في روايته "استخدام الحياة". ولعل أجمل هذه التعبيرات، وأكثرها "تهوراً" في مقارعة القمع، إطلاق أحدهم صفحة على موقع "إي باي" لبيع الرئيس المصري عبد الفتاح السيسي بالمزاد، بعدما عرض الأخير بيع نفسه، إن كان ذلك يساهم في دعم الاقتصاد المصري. لا ينافس تفوق صاحب الدعابة في التندّر مما وصلت إليه أحوال الحكم في مصر، إلا تفوق الحكام في رداءة السياسات وانتهاكها أبسط حقوق المواطنين.
ليست "وقاحة" جوليو ريجيني سوى مظهر من مظاهر حالة عامة، باتت توحي بحركة احتجاج على الخطاب الأبوي المفرط في سذاجته للنظام العسكري وإعلامه. وهي حركة تدحض الانطباع العام بأن المؤسسة العسكرية نجحت في خنق أي نفس احتجاج في المجتمع المصري. حركة سيكون لفصولها المقبلة شرح يطول.

A6CF6800-10AF-438C-B5B5-D519819C2804
فاطمة العيساوي

أستاذة لبنانية في جامعة إيسيكس البريطانية. ترأست بحثا في تأثير عملية الانتقال السياسي على الإعلام المحلي في دول الثورات العربية. صحافية مستقلة ومدربة وخبيرة في التشريعات الاعلامية في العالم العربي.