هل نحتاج ثورةً جنسية؟

هل نحتاج ثورةً جنسية؟

10 مارس 2016

لوحة للفنان تيسير البطنيجي

+ الخط -
(1)
اثنتان وسبعون من الحور العين، ينتظرن الشهيد في الجنة .. هذا الضخ "الفقهي" المكثف في ذهن شابٍّ مكبوت في مقتبل عمره، لم يجد "الباءة" الكافية للزواج، يكفي، ضمن سياقات خاصة مرافقة، سياسية واقتصادية، للتمنطق بحزام ناسف، وتفجير النفس لقتل أكبر عدد ممكن من "الكفار"، باعتباره أقصر الطرق للوصول إلى تلكم الفتيات الفاتنات، اللواتي "يُرى مُخُّ سُوقِهنّ مِن وراء العظم واللحم"، لفرط جمالهن وفتنتهن.
ليس مراد هذه السطور المبالغة في الوقوف طويلا أمام "مبالغات" بعضهم، وإسهابهم في إسالة لعاب الشباب، في معرض حضهم للالتحاق بالجنة سريعاً، عبر طريق "الشهادة"، فليس الغرض نقد النصوص الدينية الثابتة بهذا الخصوص، وإنما يشغل صاحب هذه المقالة كثيرا ذلك التوظيف الخبيث لتجنيد الشباب للالتحاق بصفوف "المجاهدين"، والعزف على وتر جنسي حسّاس، يعاني أصلا من تعسر واحتباس وقلق وأرق، في ظل ظروف عربية معيشية بالغة القسوة، ناهيك عن تقاليد تثقل الشاب المقبل على الزواج باشتراطاتٍ، أحيانا لا قبل له بها، فيرى أن "الشهادة" أقصر الطرق لإشباع هذا الجوع الأزلي.
هذا "العزف" الشاذ، وكثير غيره، يظللنا، ونحن نحتفل باليوم العالمي للمرأة، وبلادنا تغرق في حربٍ مفتوحة على "الإرهاب"، ولا يتطرّق له كثيرون من المشتغلين بهذا الهم، باعتباره عنصراً "ثانوياً" في مواجهة "الشطط" و"التطرف" الذي بدأ ينمو على جسد الأمة كالفطر، في غياب رؤيةٍ شاملةٍ لمعالجة فكر التكفير، وإهدار دم "الآخر" بوسائل قتالية أمنية فقط، من دون الانتباه إلى أساليب أخرى، أكثر تأثيراً في عقول الشباب المقبل على "الشهادة"، تتعلق بطرق التفكير، وهي الأقدر على زعزعة فكر التكفير، فالحرب على ما يسمونه "الإرهاب" حرب عقول، إن صدقت فعلاً، ولم تكن ذريعة لمزيد القهر والسيطرة على الشعوب.
(2)
لماذا نستدعي تعبير "الثورة الجنسية" في سياقٍ كهذا؟ حسناً، نحسب أن الثورات التي أنتجت المدنية الغربية، والنهوض الحضاري الذي ضرب الغرب، في القرنين الماضيين، قامت على ثلاثة أقانيم: سياسية، واقتصادية، وجنسية، بغض النظر عن صوابية النتائج التي أفضت إليها تلك الثورات، في البعد القيمي الذي يحكمنا كأمة إسلامية، لها محدداتٌ أخلاقيةٌ في حياتها، مسيجةٌ بمنظومةٍ كاملة من النصوص والمفاهيم، المستندة إلى قيم الإسلام. ولكن المقاربة، هنا، تنشغل بمغزى "التحرّر" الذي تنتجه الثورة، وهو تحرّر سياسي من جبروت الأنظمة، وتحرّر اقتصادي يتيح حياةً كريمة للناس، ضمن منطومةٍ كاملةٍ من حق العمل وتكافؤ الفرص وسيادة العدالة الاجتماعية، وتحرّر جنسي، أساسه "تحرير الجسد" من قيود استعباده وارتهانه للآخر، باعتباره ملكاً لصاحبه. التأكيد هنا أننا لا ندعو إلى "الاقتداء" بالثورة الجنسية في الغرب، فلهم دينهم ولنا ديننا، لكننا ننظر في حال أبنائنا وبناتنا، فنشعر أن أجسادهم "محتلة"، مرتهنة لجملة من الأسوار والاحتلالات التي تحول دون كَرّهم في هذه الحياة، (استلهاما لمقولة "كُر وأنت حر")، وهم على ذلك النحو من الاختناق والعيش مثل بقية خلق الله، في عشٍّ آمن، بدون أسلاك شائكة، وضعتها قيود المجتمع، وعقليات متحجرة، تتسبب بحرمان الشاب والفتاة، من أن يلتقيا، بيسرٍ وسهولة، ويكوّنا ملاذهما الأسري الآمن.
كيف تصدّق أن فتى أو فتاة، على مشارف العقد الرابع من عمرهما، وهما يتوقان إلى مجرد
"حضنٍ" ينعمان فيه بالدفء والسكينة، فقط لأن شروط الزواج القاهرة غير متيسرة؟
نفهم، مثلاً، أن يمنع الاحتلال الصهيوني، بجبروته ووحشيته، وذهنية الإجرام التي تسيطر عليه، زواج شاب من غزة، مثلاً، بعروس من الضفة الغربية. ولكن، كيف نفهم أن نقيم في مجتمعنا "احتلالاتٍ" من نوع آخر، تبني سدوداً عالية، بين آدم وحواء، فيمنعانهما من أن يعيشا حياتهما الطبيعية، وينجبان "قروداً" صغيرة "تنغّص" عليهما حياتهما، كما هي العادة، بل إن الطبيعة السويّة، حتى في الأدغال، لم تفعل ما يفعله الآباء والأمهات، وقوانين المجتمع الظالمة، بأبنائهم وبناتهم، هل سمعتم عن سنونو مُنع عن الاقتران بسنونته؟ أو حتى حصانٍ عن الاقتران بمهرته؟
تحرير جسد الشاب والفتاة في دنيا العروبة والإسلام مقدّم، اليوم، على أي تحرير آخر، أو قل هو لا يقل، في أهميته، عن تحرير الإرادة والاقتصاد، وتحقيق العدالة الاجتماعية، والتخلص من الاستبداد، فالجسد "المحتل" لا يمكنه تحرير وطنه من أي احتلال آخر، حتى ولو كان احتلالاً "وطنيا".
(3)
أستذكر، في هذا المقام، جزءاً من نصٍّ، يلح علي، كلما احتفل العالم بالأنثى، في عيدها، وهو نوع من البوح الذاتي، على لسان امرأة، كتبت لي رسالة تقول فيها: مشكلتي الرئيسية أنني أنثى وحيدة، في غابة من الذكور، أسمع صراخ رجولتهم، وأشم رائحتها، كل لحظة، وهي تعبر عن ذاتها كل حين بتباهٍ واستعراض، وأحياناً بكثير من الفخر، وتسجيل البطولات الذكورية. أما أنا وحدي أنا، فمطالبة بالاعتذار في كل لفتةٍ أو كلمةٍ أو تنهيدةٍ، عن كوني أنثى. عليّ أن أداري جسدي، وألفه بما يكفي لإخفاء معالمه كلها، حتى وأنا داخل البيت، أن نسيت نفسي وضحكت بصوتٍ عالٍ، قيل لي: عيب أنت بنت، وإن مرّ بشاشة التلفزيون مشهد تعبيري، فيه شيء من الإنسانية الدافئة، قالوا لي بصوت واحد: قومي اعملي لنا شاياً. حتى أمي، المفترض أنها الأنثى الثانية في البيت، من حيث التصنيف الفسيولوجي، منحازة لذكوريتها الدفينة، ولا أجدها في صفي أبداً، بل هي على الدوام تشاركهم على الدوام معزوفة: عيب أنت بنت. أما والدي فأكاد أسمع نبضه الدفاعي أحياناً، لكنه لا يجرؤ على ضمي إلى صدره، بحجة أنني لست ذكراً، وسأكون منصفةً وأعترف، فقد خصّني بدفق كبير من الحنان، أشعر أنه الأقرب مني، كان يضعني في حضنه، وأنام أحياناً بينه وبين والدتي. كم كان حنونا علي وأنا طفلة صغيرة، لكنه حينما كبرت قليلاً تغير فجأة، وصار ينظر لي وكأنني "امرأة"، فنادراً ما يلثمني أو يحضنني، تمنيت من أعماقي أن أبقى صغيرةً، حتى أظل في حضنه، لكنني كبرت، وكبرت ضريبة جسدي الأنثوي. أنا بالنسبة لهم، أعني أخوتي الذكور، مجرد "عرضهم" لا شقيقتهم، وهدفهم الأسمى في الحياة أن يحافظوا على هذا العرض. من حيث المبدأ، لا مانع لدي من أن أكون محط انتباههم واهتمامهم. لكن، ليس كجسد أنثى "مهدد" بشكل دائم باحتلال أجنبي، بل كإنسانة، لها مشاعر وأحاسيس، ولها أماني وطموحات.

دلالات