تبدّل النخب الإسرائيلية: عودة إلى قبل 1948

تبدّل النخب الإسرائيلية: عودة إلى قبل 1948

07 مارس 2016
+ الخط -
كثر الحديث، في الأعوام الماضية، وزادت وتيرته، بعد انتخابات الكنيست في مارس/ آذار 2015، عن حصول تبدل في النخب المهيمنة في إسرائيل لصالح اليمين المتطرف، أو ما يعرف بالتيار الصهيوني المتدين الاستيطاني، وأصبح الأمر مسلماً به مما تعرف النخب اليسارية أو التيار المركزي في الحركة الصهيونية، وهي النخب العلمانية الليبرالية "الحمائمية"، وتسيطر أجواء "كئيبة" على خطاب "النخب اليسارية" التي وجدت نفسها، في الشهور الأخيرة، تحت "هجوم مباغت" من اليمين، وليس أي يمين، بل اليمين الاستيطاني الإقصائي الحاكم المتمثل بوزراء حكومة بنيامين نتنياهو، مثل وزراء الثقافة والتربية والقضاء، ميري ريغيف ونفتالي بينيت وآيليت شاكيد وغيرهم.
وليس الحديث عن تبدل النخب المهيمنة في إسرائيل تنجيماً، ولا أحاديث عن مؤامراتٍ تُحاك بالسر، وإنما نتيجة تحولاتٍ ديمغرافيةٍ عميقةٍ في المجتمع الإسرائيلي، وهي ليست مؤامرات سرية، لأن قائد أحد أبرز التيارات اليمينية المتطرفة، نفتالي بينيت، صرّح، الصيف الماضي، في مؤتمرٍ لمناسبة مرور عقد على عملية فك الارتباط عن قطاع غزة بأن "هدف فك الارتباط كان وقف صعود نخب الجمهور المتدين القومي، الذي راكم، على مدار سنوات، مواقع مؤثرة شرعية، لكنها خطيرة بنظر رجال اليسار، فهم أحسّوا بأن هناك من قام بتغيير القوانين. لكن، من دون تبليغهم بذلك". ويؤكد بينيت أن السنوات الأخيرة تشهد عمليةً واسعةً لتبدل النخب في إسرائيل، والتي بدأت في عام 1977، مع صعود مناحيم بيغين إلى الحكم لأول مرة.
وبنظر قادة اليمين، تحصل التحولات على عدة أصعدة، تحوّل في النخب الإعلامية والنخب القضائية والنخب الأكاديمية والنخب الثقافية. لكن، بنظر بينيت، التحول الأهم يجب أن يكون في النخب السياسية الحاكمة، وذلك لوأد أية محاولةٍ لتفكيك المستوطنات في الضفة الغربية مستقبلاً، أو ما يسميه "اقتلاع المستوطنين"، وذلك، بنظره، لا يتطلب هيمنة اليمين فقط، لأن فك الارتباط جرى في عهد حكم الليكود، برئاسة أرييل شارون، وإنما المطلوب هو يمين عقائدي قيمي، وفي صلب عقيدته السيطرة على كل البلاد، ليس لدواعٍ ومبرراتٍ أمنيةٍ، لأنها قد تزول أو تتبدل، وإنما بدافعٍ قيميٍ عقائديٍ، مع التشديد على ضرورة مخاطبة الرأي العام اليهودي، وتأكيد رسالة أن "الصراع على أرض إسرائيل" ليس صراع المستوطنين وحدهم، وإنما صراع كل اليهود. ويخلص بينيت إلى القول إنه قرّر، بعد فك الارتباط قبل أكثر من عقد، "عدم الصمت"، ومنع حصول إخلاء للمستوطنين مستقبلاً، وذلك بالسعي للوصول إلى الحكم.

ليست أقوال بينيت استنتاجاتٍ شخصيةً لسياسي متطرف، وإنما تعكس عقيدة منتشرة ومتجذرة في أوساط اليمين الاستيطاني، ولها تبريرات "بحثية وأكاديمية"، ففي عام 2008، نشر المحاضر في كلية أريئيل الاستيطانية، أودي ليبل، بحثاً زعم فيه أن هدف خطة فك الارتباط عودة النخب "الأشكنازية العلمانية الاشتراكية الحمائمية" إلى السلطة. كما زعم أن الدافع لخطة فك الارتباط هو استعادة النخب التي هيمنت على الحكم في إسرائيل، منذ تأسيس (إسرائيل) حتى الثمانينيات، مواقعها المؤثرة في الحكم، بعدما اختارت هذه النخب، بحسب ليبل، ساحاتٍ أخرى، في أعقاب حرب 1967، وحرب لبنان في عام 1982، لنشر خطابها، وهي الساحات القضائية والإعلامية، على حساب هيمنتها على الأمن والسياسة.
ويعزو ليبل رغبة هذه النخب في استعادة مواقعها السابقة، وتحديداً في مجال الأمن، إلى اندلاع الانتفاضة الثانية، وعودة الجيش إلى تأدية دور محوري في تخريج قياداتٍ سياسيةٍ مستقبلاً، أي أن النخب "العلمانية الليبرالية اليسارية" حاولت استعادة مواقعها، بعد أفول ما تسمى عملية السلام مع الفلسطينيين وصعود قوة اليمين، لكن هذه العودة كانت متأخرةً، كما تبيّن لاحقاً، إذ كانت هذه النخب هي من حرّضت الرأي العام الإسرائيلي على الفلسطينيين والتسوية. وفي الوسع القول إن إيهود باراك، آخر رئيس حكومة محسوب على هذه النخب، أطلق رصاصة الرحمة على حكم "اليسار"، أو التيار الليبرالي المركزي في الصهيونية، بتصريحه إنه ليس هناك شريك فلسطيني للسلام مع إسرائيل، بالإضافة إلى إصداره تعليمات بإطلاق الرصاص الحي على المتظاهرين في البلدات العربية داخل إسرائيل في الأيام الأولى للانتفاضة الثانية. وبذلك، يكون قد أطلق رصاصة الرحمة الثانية على ما كان طوال عقود "خزان الأصوات" لـ"معسكر السلام الإسرائيلي" أي أصوات الناخبين العرب. ومذاك اليوم، لم تقم قائمة لهذا المعسكر، بعدما تبيّن أنه كان قائماً على أصوات الناخبين العرب، بعدما تراجعت شعبيته في أوساط اليهود.
لا يعني الحديث عن تبدّل النخب المهيمنة في إسرائيل اندثار النخب السابقة، بل إنها أصبحت غير مهيمنة، وخسرت معركتها مع اليمين المتطرف، بعدما حاولت التستر عليها دولياً، طوال أكثر من عقد، فلم تتردد، على سبيل المثال، تسيبي ليفني، المحسوبة على تلك النخب، في الدفاع عن إسرائيل في ظل حكم اليمين في الأعوام الأخيرة بقيادة نتنياهو وليبرمان. ولم يتعب شمعون بيرس، المحسوب هو الآخر على النخب المهزومة، في الدفاع عن التطرف الحاصل في إسرائيل، وتجميل حكم اليمين دوليا.
لكن هذا التوصيف المقتضب لا يفي الإجابة على السؤال الأهم: إلى ماذا يسعى اليمين المتطرف، وفي مقدمته نتنياهو، من خلال محاولة فرض هيمنته على المؤسسات الإسرائيلية؟ أجاب بينيت على هذا التساؤل، كما ورد أعلاه، بأنه يريد أن يحبط أية محاولة لإخلاء المستوطنين مستقبلا. لكن الهدف أعمق بكثير، ويعود بالصراع إلى ما قبل النكبة عام 1948، أي إلى مرحلة "الصهيوني الذي يسعى إلى الاستيطان وفلاحة كل شبر" في فلسطين، وبلغة اليمين اليوم الاستيطان "في أرض إسرائيل الكبرى". هذا بالإضافة إلى محو أية صفة أو مطالب سياسية ودولية تعتبر الفلسطينيين مجموعة قوميةً، لها حق تقرير المصير، بل ترى في الفلسطينيين سكاناً لا حقوق سياسية قومية لهم. وليس هذا المسعى جديداً، وإنما هو متجذر في عقيدة اليمين التي رأت منذ ما قبل تأسيس إسرائيل الفلسطينيين في فلسطين سكاناً "عرباً" لهم الحق بالعيش المرفَّه في أرضهم. لكن، من دون حقوق سياسية.
وأكثر ما يدل على هذه العقلية تصريحات نائبة وزير الخارجية، تسيبي حطوفيلي، من حزب الليكود، والتي قالت فيها إن "الاحتلال ليس احتلالاً… حقيقة هي أن محكمتنا العليا لم تعرف في أي من قراراتها الأوضاع في الأراضي (الفلسطينية المحتلة في 1967) على أنها احتلال. سنقوم بتفكيك هذا المصطلح" (هآرتس 22\2\2016). والأهم، في تصريحات حطوفيلي، قولها إن نتنياهو يشدد في لقاءاته الدبلوماسية على نقطتين، حسب تعبيرها، الأولى أنه لا يمكن تخيل إسرائيل تقوم بخطوات أحادية الجانب، وأنه يرى إخلاء المستوطنين عملية "تطهير عرقي"، كما قالت.

CD4D2687-0C43-4098-B1F0-30FA7B0B927F
رامي منصور

إعلامي فلسطيني ورئيس تحرير موقع "عرب 48"