العرب والعودة إلى "اللاحرب واللاسلم"؟

العرب والعودة إلى "اللاحرب واللاسلم"؟

31 مارس 2016

مدرعات إسرائيلية في الجبهة السورية في حرب 1973 (Getty)

+ الخط -
ظهر مصطلح "اللاحرب واللاسلم" في بداية سبعينيات القرن الماضي، وكان تعبيراً عن الحالة التي يمر بها الصراع العربي - الإسرائيلي في ذلك الوقت، بعدما وافق جمال عبد الناصر على مبادرة روچرز لإيقاف حرب الاستنزاف في أغسطس/ آب 1970، لتصمت المدافع، ولكن من دون اتفاقية محددة، فلا هي سلام يتيح العودة إلى الحياة الطبيعية، ولا هي حرب قائمة.
وبطبيعة الحال، لم يكن بالإمكان استمرار تلك الحالة طويلاً، فقد كانت فوق طاقة الاحتمال، فلا هي حالة سلام واستقرار وتنمية، ولا هي حالة حرب واضحة المعالم والأهداف، وبالتعبير الذي كان سائداً بين العامة وقتها (إما أن ننقض.. أو ننفض)، وجاءت حرب أكتوبر 1973، لتضع نهاية لحالة "اللاحرب واللاسلم"، وليدخل العالم العربي في مرحلة جديدة تماماً.
استغرقت المعارك في ميادين القتال على الجبهتين المصرية والسورية، وخلفهما العالم العربي يدعم ويتابع، ما يقرب من ثلاثة أسابيع، وإحقاقاً للحق، فإن المقاتل العربي في تلك المعارك أبلى بلاءً حسناً، وقاتل كما لم يقاتل في معارك سابقة مع العدو نفسه، وحقق نصراً عسكرياً ميدانياً في ساحة القتال.
انتهت حالة "اللاحرب واللاسلم"، وشعر المواطن العربي أن هماً ثقيلاً قد انزاح من على كاهله، وعمّت مشاعر استعادة الكرامة والثقة بالنفس، والقدرة على الفعل. ولكن، ما كاد غبار المعارك ينقشع عن مسارح العمليات، حتى بدأت أكبر عملية خداع وتسويف ضد الأمة العربية، قادتها، فى ذلك الوقت، الولايات المتحدة الأميركية، وتواطؤ من "الاتحاد السوفييتي" السابق. وكان عراب تلك العملية ومهندسها وزير خارجية أميركا ومستشار أمنها القومي في ذلك الوقت، هنري كيسنجر، وليس ذلك من قبيل ما يعرف بنظرية المؤامرة، لكنه كان، في سياق ما هو مقرّر للعالم العربي، بأن يبقى ضعيفاً، غارقاً في صراعاتٍ داخليةٍ، منكفئاً على نفسه، مشغولاً بقضاياه التي يجب أن تكون مزمنة، قضايا الفقر والجهل والمرض، وقضايا القهر والظلم والفساد.
لذلك جاءت مبادرة كيسنجر سريعة، ونشيطة، قادها بنفسه، وهو على متن طائرةٍ تجوب الشرق
الأوسط فى رحلات مكوكية، قضى فيها أكثر من عدة آلاف من ساعات الطيران، وهو ما لم يحدث، ولن يحدث مع أي وزير خارجية لأميركا، ولا لغيرها، في أي وقت، ولا في أي أزمة؟
انتهت مسيرة كيسنجر المكوكية الطويلة والمرهقة، بإعادة ترتيب الأوضاع في المنطقة في إطار ما عُرفت باتفاقيات فض الاشتباك، والفصل بين القوات على الجبهتين المصرية في سيناء، والسورية في هضبة الجولان، ولم تكن تلك الاتفاقيات اتفاقيات هدنة، ولا اتفاقيات سلام، وأيضاً لم يعد في المقدور استئناف الحرب لاستكمال تحرير الأرض. وعند تلك النقطة، ترك كيسنجر الأمر معلقاً.
وأيضاً عند تلك النقطة، أفلتت من العرب اللحظة التاريخية التي جمعتهم، ووحّدت مشاعرهم، وبدأت تدب من جديد روح الفرقة والتمزق، مع اختلاف المسارات والتوجهات، عندما اختار أنور السادات المضي فيما أسماها عملية السلام، وتصوّر أنه قادر على تحقيق سلامٍ شاملٍ وعادلٍ ينهى به الصراع العربي – الإسرائيلي، ويعيد الحق لأصحابه، وانتهى به الأمر إلى معاهدة سلام منفرد مع العدو الإسرائيلي، أعادت إلى مصر كل سيناء بضوابط أمنية، وأيضاً خرجت بمقتضاها مصر من الصراع العربي - الإسرائيلي عسكرياً على أقل تقدير، وتحولت إسرائيل على المستوى الرسمي إلى "دولة جوار"، وليحمل السادات لقب بطل الحرب والسلام، ويصبح ذلك مسوغ استمراره في السلطة، بينما اختار حافظ الأسد أن يبقى الجولان المحتل محتلاً، ويبقى هو حاكما يرفع شعار الممانعة، باعتباره الأمين على قضية الحرب (الموقوفة)، ويصبح ذلك أيضاً مسوغ استمراره في السلطة. وهكذا تفرق العالم العربي، وتشتت وأصبح لكل دولة بوصلتها الخاصة.
وعلى مدى 38 عاماً، من عام 1973وحتى عام 2011، شهد العالم العربي تحولاتٍ حادة في المواقف، وفي العلاقات البينية بين دوله، فلا مصر حققت سلاماً عادلا وشاملاً، ولا شهدت التعمير الذي سيأتي بعد التحرير، ولا الأسد مانع إسرائيل في احتلالها الجولان، ولم يطلق جيشه النيران بعد أكتوبر 73 إلا لقمع الشعب السوري.
لم تكن السنوات الثماني والثلاثون تلك سنوات "لا حرب ولا سلم"، لكنها كانت سنوات تخبط عربي بامتياز، ولعل أهم ما يميزها استمرار نظم الحكم، بل الحكام أنفسهم على سدة الحكم طوال تلك السنوات أو معظمها، وبعيداً عن الدول ذات النظم الملكية الوراثية، نجد حكاماً، مثل السادات وبعده حسني مبارك في مصر، حافظ الأسد وبعده ولده بشار في سورية، معمر القذافي في ليبيا، علي عبد الله صالح في اليمن، الحبيب بورقيبة وبعده زين العابدين بن علي في تونس، صدام حسين في العراق، وغيرهم في باقي الدول.
وكما كانت حالة اللاحرب واللاسلم غير مقبولة من الشعوب العربية، بل وغير مريحة للنظم والحكام، فإن حالة الإضطراب والتخبط التي أعقبت حرب أكتوبر 1973، لم تكن قابلة للاستمرار عقوداً طويلة، وجاءت لحظة الانفجار متمثلة في ثورات الربيع العربي 2011، فإذا كانت حرب أكتوبر قد بعثت الروح في الجسد العربي، فإن انطلاقة الربيع العربي أعادت الثقة في النفس إلى المواطن العربي في أنه قادر على الفعل، بعد أن أيقظت حلم الحرية والكرامة، والعدالة الاجتماعية، بعد عقود من المهانة، وبطش السلطة، وافتقاد أبسط حقوق الإنسان.
وكما بدأت حرب أكتوبر مبشرةً في أيامها الأولى، فإن ثورات الربيع العربي بدأت أيضاً مبشرة في أيامها الأولى، فلم يستغرق الأمر أكثر من أسابيع قليلة، حتى كان زين العابدين بن علي قد هرب من تونس، ومبارك تخلى عن الحكم في مصر، والقذافي قُتِل مغدوراً في ليبيا، وعلي عبد الله صالح ترك السلطة بعد تعرضه للاغتيال، وتدخل السعودية ومجلس التعاون بمبادرة، بينما بقي بشار الأسد يقاوم الثوار بجيشه المُسيّس. وارتفع سقف الطموحات الشعبية إلى آفاق بعيدة، فإن حلم الحرية والكرامة والعدالة الاجتماعية، حلم الدولة الديمقراطية الحديثة، حلم الإخاء والمساواة، حلم تكافؤ الفرص، وأشياء كثيرة، كثيرة، حلمت بها الشعوب طويلاً. وأصبح ذلك كله وكأنه قاب قوسين أو أدنى من التحقيق.
ولكن، سرعان ما هبت رياح عكسية عاتية، كانت تحمل ثورات مضادة، ومرة أخرى، وبرعاية من قوى خارجية إقليمية، ودولية، وأيضاً بعيداً عن نظرية المؤامرة. ولكن، في السياق القديم نفسه، وهو أنه من غير المسموح لهذه المنطقة العربية الإسلامية أن تصحو، بل عليها أن تبقى على حالها غارقةً في أمراضها المزمنة التي أشرنا إليها: الفقر والجهل والمرض ومعاناة القهر والظلم، وانكفاء على الذات، وانشغال بمشكلات وصراعاتٍ داخليةٍ لا تنتهي. وهكذا، انتقلت المنطقة إلى حالةٍ تشبه حالة "اللاسلم واللاحرب"، فلا ثورة ولا استقرار. فلا ثورات الربيع العربي نجحت، كما لا نستطيع القول إن الفعل الثوري مستمر، لكن الحلم الثوري ما زال باقيا، ولا الثورات المضادة التى اقتنصت السلطة نجحت في تحقيق الاستقرار والحصول على القبول الشعبي رضاء أو جبراً.
يمر العالم العربي بمرحلةٍ شديدة الاضطراب والالتباس، يمكن أن نسميها حالة اللاثورة واللااستقرار، فإلى متى ستستمر تلك الحالة؟ هذا ما ستقرّره الشعوب، فهي التي تملك الحلم الثوري.
2FABA6BB-F989-4199-859B-0E524E7841C7
عادل سليمان

كاتب وباحث أكاديمي مصري في الشؤون الاستراتيچية والنظم العسكرية. لواء ركن متقاعد، رئيس منتدى الحوار الاستراتيجى لدراسات الدفاع والعلاقات المدنية - العسكرية.