مصر ووهم السردية الكبرى

مصر ووهم السردية الكبرى

30 مارس 2016

رسم لمحمد علي باشا (Getty)

+ الخط -
من القضايا التي تزداد أهميتها، منذ انتهاء الصراع الدولي ثنائي القطبية (الشيوعي/ الرأسمالي) قضية "السرديات الكبرى"، ذلك أن الأيديولوجيتين اللتين احتلتا جانباً كبيراً من المسرح الدولي، ما يقرب من نصف قرن، ارتكزتا على نقطة النهاية. وبغض النظر عن تقييم كل منهما، الشاهد أنه يمكن تلخيصهما في مقولتي "اليوتوبيا الشيوعية" مقابل "إنسان فوكوياما الأخير"، ما يعني أنهما، من حيث البنية كانتا، إلى حد كبير، "تبشيريتين" تستقطبان الأنصار بـ "وعود مستقبلية" (وهي في حالة فوكوياما من المفترض أنها تحققت!).
الجديد في المشهد الدولي كان صعود الهويات والإثنيات بوصفها "سردياتٍ كبرى" تستلهم "ما كان" لا "ما سيكون". وبطبيعة الحال، كانت هناك مجتمعات تضخم "السرديات الصغرى" المرتكزة على اللحظة الآنية، لا على الحنين إلى ماضٍ، ولا التوق إلى وعد مستقبلي: الاستهلاكية، الترفيه، الأزياء،... لتملأ فراغ "السرديات الكبرى الغائبة".
وعلى الرغم من أن العالم العربي، وفي القلب منه مصر، كان متوزعاً بين سردياتٍ كبرى، تعيد إنتاج نفسها في غير أوانها على قاعدة المثل المصري الشهير: "رايحين نحج والناس راجعة"، وسرديات صغرى تركت بصماتها الشوهاء في قطاعاتٍ من المجتمعات العربية، جاءت ثورات الربيع العربي.
كانت مصر أمام أسئلةٍ لا تملك أمة أن تتحرّك خطوةً إلى الأمام ما لم تجب عنها، لكن الحالة التي كانت عليها الأطراف الفاعلة جميعاً، المجتمع والدولة والنخبة، كانت تدعو إلى منح "هدنةٍ" لم يحصل عليها أي منهم للتفكير، فجاءت الإجابات استقطاباً، هو في مظهره، صراع رؤى، وفي حقيقته صراع مصالح، يستخدم السرديات الكبرى والصغرى، فضلاً عن الأكاذيب والأوهام والصور النمطية، وقوداً لصراع مركب فاز فيه، ولو إلى حين، تحالف "القديم"، ويشمل سياسات من الماضي ورؤى من الماضي، وقوى اجتماعية من الماضي، جميعها رأت في "الدولة الوطنية" مظلة جامعة، و"كسارة جليد" قادرة على مواجهة طوفان تغييرٍ، يشمل قوة جيلية كبيرة: الشباب، وحزمة أفكار تهدد "عمود خيمة السردية الكبرى"، ويمكن إجمال أهم حامليها في: "الإخوان المسلمون"، "الاشتراكيون الثوريون"، "المجتمع المدني".
وفي قلب عاصفة الصراع، كان تسويق دولة محمد علي، بوصفها خيار المصريين الذي لا
تجوز مناقشته، وكانت إحدى المقولات المهيمنة أن الإسلاميين تحديداً يريدون هدم الدولة، لأسبابٍ، في مقدمتها لأنهم "كافرون" بالوطن، وهم بالتالي، صراحة أو ضمناً، "تكفيريون"، لكن حقيقة هذه الوطنية التي تم تأسيسها على يد شخص غير مصري أصلاً (ألباني)، تبدو أكثر وضوحاً في ضوء العبارة التالية للمستشرق الفرنسي، أرنست رينان، وهو أحد أهم صانعي أسس الرؤية الفرنسية الرسمية لمصر، "أهمية مصر الاستراتيجية بالنسبة لملكوت البحار، كما بالنسبة للاستيلاء على أعماق إفريقيا، إنما تشير إلى أنه حين يلعب بلدٌ ما دوراً يمس المصالح العامة للبشرية، فإنه يجري دائماً التضحية به، في سبيل هذه المصالح. والبلد الذي تكون له مثل هذه الأهمية بالنسبة لبقية العالم لن يسعه الانتماء إلى نفسه، إذ يجري تحييده لحساب البشرية ... ... وسلالة محمد علي المالكة ليست سوى دمية بيد أوروبا، إن فرنسا على مدار ثلاثة أرباع القرن وجدت حلاً لهذه المشكلة الصعبة، حلاً سوف يكون مثار الإعجاب، عندما تبين التجربة أية دموع ودماء سوف يدفعها العالم ثمناً للحلول الأخرى. لقد ارتأت أن تحقق عبر أسرةٍ مالكةٍ مسلمةٍ من الناحية الظاهرية (!).. هيمنة الروح الحديثة على هذا البلد غير العادي الذي لا يمكن تركه منتمياً إلى البربرية، من دون أن يترتب على ذلك إلحاق أذى فادح بالصالح العام". و"يرد محمد علي وأسرته المالكة على خاطره فوراً، وهو يصف الملوك اليهود المتأثرين بالروح الهللينية، والذين يخدمون روما بالخروج على روح إسرائيل الدينية".
العبارة مليئة بما يستحق التعليق، لكن وصف أسرة محمد علي "المسلمة ظاهرياً" يستثير التوقف عنده، وهو لأرنست رينان الذي لم يفصح عن حقيقة ما وراء هذا الظاهر، وقوله: "إن مصر سوف يتم حكمها دائماً من مجموع الأمم المتحضرة"، وهو حديث لا لبس فيه عن فراغٍ استراتيجي تتحكم فيه قوى دولية. وتشير العبارة إلى قضية أن "مصر في المخيال الفرنسي" هي إحدى أهم مفاتيح فهم ما يحدث في مصر في عام 2016، ففي باريس، أكثر من أي مكان آخر في العالم، وضعت الخطوط العريضة لـ "السردية الكبرى" التي يقاتل كثيرون دفاعاً عنها.