"الجهاد الفرنكفوني" في أوروبا

"الجهاد الفرنكفوني" في أوروبا

29 مارس 2016
+ الخط -
عقب هجمات باريس في الثالث عشر من نوفمبر/ تشرين ثاني الماضي، كتب عالم اجتماع الأديان الفرنسي المعروف، أوليفيه روا، مقالاً مهماً في جريدة لوموند الفرنسية، ثمّ جرت ترجمته ونشره في مجلة فورين بوليسي الأميركية، نظراً لأهميته وتحليله الرصين للهجمات وخلفيات المشاركين بها. الأطروحة الرئيسية في المقال، والتي تمثل مقاربة مختلفة تماماً عما يطرحه باحثون ومسؤولون رسميون آخرون، هي أن ما حدث في باريس، ومن قبله في عواصم غربية مثل لندن ومدريد، ليس نتيجة لوجود "إسلام راديكالي" يعتنقه بعضهم، وإنما نتيجة لحدوث "أسلمة لموجة الراديكالية الراهنة في أوروبا"، خصوصاً بين الشباب المسلم أو المتحول إلى الإسلام.
بيد أن المثير في أطروحة روا نفي أي ارتباط بين موجة الراديكالية الحالية بين الشباب المسلم الأوروبي وما يجري في الشرق الأوسط من حروب ونزاعات وصراعات. وذلك في محاولة للرد على الاقترابات الثقافية/ الاستشراقية التي تحاول الربط بين الأمرين، وتضيف إليهما الإسلام محركاً رئيسياً. فالبنسبة لروا، فإن الجهاديين في أوروبا ينتمون إلى أحد فصيلين أو جيلين، الأول هو "الجيل الثاني" للمهاجرين الفرنسيين، والثاني هو جيل المتحولين إلى الإسلام داخل فرنسا، والذين يزداد عددهم بشكل مضطرد. ما يعني أن "الجيل الثالث" من الجهاديين، والذي يبزغ الآن، هو "صناعة محلية" فرنسية بامتياز، وأوروبية بشكل عام.
تمثل أطروحة روا مدخلاً مهماً وملائماً لفهم التفجيرات في العاصمة البلجيكية، بروكسل، في السادس والعشرين من شهر مارس/ آذار الجاري، وراح ضحيتها حوالي 35 شخصاً، فضلاً عن مئات الجرحى. فمنفذو التفجيرين (الأخوان إبراهيم وخالد بكراوي)، فضلاً عمّن يُعتقد أنه المخطط للهجمات نجيم عشراوي) هم من أبناء الجيل الثالث من المهاجرين العرب إلى بلجيكا. وهم أبناء ضواحي بروكسل الذين نشأوا وترعرعوا في داخل أحيائها الفقيرة والمهمشة، خصوصاً حي مولينبك الذي خرج منه أيضا منفذ هجمات باريس وعقلها المدبر، صلاح عبد السلام، الذي قُبض عليه قبل أيام من وقوع تفجيرات بروكسل.

يؤكد أطروحة روا، بشكل أو بآخر، الباحثان ويليام ماكنتس وكريستوفر ميسرول اللذيْن نشرا دراسةً مطولةً، قبل أيام، في مجلة "فورين أفيرز"، يحاولان فيها تقديم تفسير للهجمات الإرهابية التي وقعت في فرنسا وبلجيكا، من خلال مقاربةٍ تتعلق بطبيعة الثقافة الفرنكفونية، وضعف قدرتها علي دمج الأفراد واستيعابهم، خصوصاً المهاجرين، واعتبارهم مواطنين كاملي الأهلية. وقد توصل الباحثان في دراسة مسحية، قاما بها علي مدار ستة أشهر، إلى أن عدد المقاتلين في صفوف تنظيم الدولة الإسلامية (داعش) من الدول الفرنكفونية (خصوصاً فرنسا وبلجيكا) يتجاوز القادمين من دول عربية، كالسعودية ومصر مثلاً، وذلك قياساً إلى عدد المسلمين أو السكان في هذه البلدان.
والمقصود بالأطروحة الفرنكفونية ليس فقط ما يتعلق بنمط الثقافة، وإنما أيضاً بالسياسة والاقتصاد، فمن الواضح أن ثمة مشكلات وعقبات، يطرحها النموذج "الفرنكفوني"، إذا جاز التعبير، في دمج المهاجرين والأجانب، مقارنة بنظيره "الأنجلو-ساكسوني" خصوصاً في طبعته الأميركية. فالثقافة الفرنكفونية لا تتمتع بمرونةٍ قيميةٍ كافية لاستيعاب "الآخر" المختلف، خصوصاً إذا كان ينتمي إلى جذور "استيطانية"، أو كان جزءاً من "رعايا" الدول الفرنكفونية، خصوصاً فرنسا. ولعل أحد تفسيرات انضمام فئات من الشباب المسلم إلى "داعش" يتمثل في فشل منظومة الدمج في بلدانهم الجديدة، والتعاطي معهم باعتبارهم نتاج "ثقافةٍ" أخرى، غير الثقافة المحلية، ما يساهم في حالة الاغتراب التي قد يشعر بها هؤلاء، والذي يتحول لدى بعضهم إلى رغبة في الانتقام، وهزيمة مجتمعه الجديد.
كذلك اقتصادياً، فمعظم الأحياء التي يعيش فيها المهاجرون المسلمون في أوروبا، خصوصاً في فرنسا وبلجيكا، فقيرة ومهمشة بشكل كبير، ويعاني ساكنوها من مشكلات البطالة وضعف مستوى التعليم والتنشئة، ناهيك عن ضآلة، إن لم يكن انعدام، فرص الحراك الاجتماعي في مجتمعات مغلقة من طبقاتٍ وفئاتٍ معينةٍ، بحيث يصبح اختراقها استثناءً، وليس الأصل.
ويزيد من ذلك أيضا التعاطي الأمني والاستخباراتي الخشن، وغير اللائق، مع المسلمين في بعض البلدان الأوروبية، والذين يرون في كل مسلم "مشتبهاً" به، حتى يثبت العكس. وهو ما يزيد من حالة الرفض والغضب داخل التجمعات الإسلامية في تلك البلدان، ويدفع الشباب المسلم إلى محاولة الرد على هذه التدخلات الخشنة في حياتهم اليومية.
لا تنفي هذه العوامل قطعاً طبيعة الحياة المغلقة التي تعيشها بعض الجاليات المسلمة في أوروبا مع مجتمعاتها الجديدة، والتي تستبطن مفهوم "الجيتو" الثقافي والاجتماعي، من دون القدرة على الانفتاح على مجتمعها الأوسع، بشكل يضمن دمجها واستيعابها، كي تصبح جزءاً من نسيجه الاجتماعي. وهو ما يعطي فرصةً لتنظيمات متشددة كثيرة، لكي تخترق هذه الجيتوهات بأفكارها وإيديولوجيتها، وتقوم بتجنيد من تشاء من شبابها، للقيام بعمليات تمرّد وانتقام ضد الحكومات القائمة في تلك البلدان.
بكلماتٍ أخرى، يبدو أننا إزاء نمط جديد من التطرف أو التشدد، يمكن أن نسميه مجازاً "التطرف الفرنكفوني" الذي يتمدّد داخل تجمعات المسلمين في أوروبا، ويدفع بمزيد من شبابها نحو التمرّد واستخدام العنف ضد المجتمع.



A6B2AD19-AA7A-4CE0-B76F-82674F4DCDE4
خليل العناني

أستاذ العلوم السياسية والعلاقات الدولية في جامعة جونز هوبكنز الأميركية. عمل كبير باحثين في معهد الشرق الأوسط، وباحثاً في جامعة دورهام البريطانية، وباحثاً زائراً في معهد بروكينجز.من كتبه "الإخوان المسلمون في مصر ..شيخوخة تصارع الزمن".