إرهاب يُوَلِّدُ إرهاباً

إرهاب يُوَلِّدُ إرهاباً

25 مارس 2016
+ الخط -
هجمات بروكسل الإرهابية واحدة في سلسلة طويلة من العمليات العدمية التي لا منطق لها، ولا يمكن تبريرها أخلاقيا، ولا ينبغي ذلك أصلا. المشكلة هنا أن إدانتها أسهل ما في الأمر، غير أن وقفها وهزيمة التيارات التي تنفذها ليسا بالسهولة نفسها، والسبب أن كثيرين ممن يحاربون هذه التيارات وعملياتها الجبانة لا يريدون أن يقرّوا أنهم هم أنفسهم مساهمون في تغذية التطرّف والإرهاب، بل وممارسون له، وأن مقارباتهم فاشلة، بل وقد تكون هي نفسها (أي المقاربات) وقوداً يعطيهما طاقة الدفع.
لنكن صريحين ومباشرين، لا يمكن هزيمة (ووقف) هذا الإرهاب الأعمى والمجنون الذي ترتكبه تياراتٌ تسيء للإسلام، عبر نسبة نفسها إليه، من دون هدم "سقف الإرهاب" الذي يَصْطَنِعْهُ بعضهم عند محاولة مناقشة أسباب هذه الظاهرة الخبيثة، وسبر أغوارها. وإذا أردنا أن ننجح في اجتثاث هذه الظاهرة الخبيثة، فعلى بعضهم، أولا، أن يتوقف عن اتهام من يحاول تشخصيها وفهمها بأنه أحد اعتذارييها. جرّب الغرب ودول عربية وإسلامية كثيرة، ودول العالم الأخرى، محاربة هذه الظاهرة عسكرياً وأمنياً، والمعركة مستمرة بشكل مباشر منذ أكثر من عقد ونيف، فأين انتهى بنا المطاف؟ أطلقت الولايات المتحدة حرباً عالمية على "الإرهاب"، واحتلت أفغانستان، وأسقطت حركة طالبان، وطاردت تنظيم القاعدة ودمرت بناه، وقتلت قياداته، بمن فيهم أسامة بن لادن نفسه، كما أنها أفردت لقيادات "القاعدة" وما شابهها، وكل من اتهم، حتى ولو ظلماً، بالعلاقة بهم، سجناً خاصاً في جزيرة غوانتانامو.. إلخ، فماذا الذي تحقق؟ بل أبعد من ذلك، أطلقت دول عربية وإسلامية برامج "مناصحة" و"إعادة تأهيل" لبعض المتطرفين فكرياً، فهل نجحت؟ كلنا يعلم أنها لم تنجح، بل إن محاولات السطو على "الخطاب الديني"، بذريعة صونه من التطرّف، لم تأت إلا بمزيد منه. هذا هو الواقع المرُّ، شئنا أم أبينا.
ما لا يريد بعضهم أن يقرَّ به هو أن ظاهرتي الغلو والإرهاب لا تنساحان في فراغ، ولا هما منطلقتان من عدم، أو حتى من "فقهٍ منحرف"، بل هما تعبير عن حالة الإحباط والهزيمة، والشعور بافتقاد الكرامة، ورفض ازدواجية المعايير، لدى هؤلاء الذين يجنحون إلى الغلو والإرهاب. لا شك أن ثمة "فقها منحرفا" حاضر هنا، لكنه ليس العامل الأساس في هذه المعادلة، وإنما يتم استصحابه للتسويغ، لا للفعل. ليست هذه محاولة تبرير للظاهرتين، ولا هي محاولة للاعتذار نيابة عنهما، بل إنها أولى الخطوات الأساسية لمحاربتهما وهزيمتهما. ولمن لم يقتنع، ومن لم يعجبه مثل هذا الطرح، فليتفضل، وليطرح حلاً آخر عملياً لهزيمتهما، فوفق ما نرى إلى اليوم، فإن قوة أميركا العسكرية الساحقة، ومعها دول الغرب الأخرى، وروسيا، وأنظمة عربية وإسلامية كثيرة، لمَّا تتمكن بعد من وأدهما وإيقافهما. ما دامت مسببات هاتين الظاهرتين موجودة، فإن التطرف والإرهاب سيبقيان مشكلة قائمة.
في سياق جذور الأزمة، لا يمكن لأي مراقب موضوعي أن يُنكر أن ثمة إحباطاً رهيباً يشعر به الشباب الذي يميل إلى التطرّف فكرياً، ثمّ يترجمه مسلكياً، إرهاباً. يكفي، هنا، أن تنظر إلى الواقع المُحْبِطِ في العالمين العربي والإسلامي، أين يزدهر القمع والتخلف والكبت والاضطهاد وغياب الأفق. وفي مقابل هذا التسلط الداخلي، والساديَّة في التعامل مع الشعوب، تجد انكساراً وخضوعاً أمام الخارج، وقبولاً بنهب الثروات الوطنية والتعدّي على السيادة، وهو ما يقود إلى شعورٍ بانعدام الكرامة التي يحاول، هؤلاء الشباب، بكل حماقة، إعادة إنتاجها عبر إرهاب أعمى وعدمي.
شئنا أم أبينا، أولئك الشباب هم مخرجات تسلط الدولة العربية القُطرية وقمعها وتخلفها، وعدوان
الخارج على الأمتين العربية والإسلامية. إنهم مخرجات تهويد فلسطين ومقدسات المسلمين والمسيحيين، وانتزاعها من أهلها، وتشريدهم واضطهادهم وحصارهم أكثر من عقود ستة. وهم مخرجات غزو أفغانستان سوفييتياً في سبعينيات القرن الماضي، وسحق العراق وحصاره في مطلع التسعينيات، ثمَّ احتلال أفغانستان مطلع القرن الجاري، وبعد ذلك غزو العراق وتدميره. إنهم مخرجات ذلك كله وما قبله من استعمار وهزائم عار ألحقت بأمتهم على أيدي آخرين، شرقاً وغرباً. إنهم مخرجات "جُرح الكرامة"، وهم يرون أنظمةً حديديةً قمعيةً مع شعوبها، تتهاوى كالذباب أمام آلة الغرب العسكرية الباطشة، كما جرى في العراق. إنهم مخرجات انعدام الحريات، والتجاوز على آدمية الشعوب، والانقلاب على خياراتها، كما جرى في مصر واليمن وليبيا. إنهم مخرجات ترك سورية تغرق في دماء شعبها، ومنع ثوارها حق الحصول على السلاح النوعي، وإفساح المجال أمام النظام وإيران وروسيا، ووكلاء آخرين، لسحق ذلك الشعب المنكوب. إنهم مخرجات المعايير المزدوجة التي تُعلي من شأن وقيمة دماء وَحَيَواتٍ على حساب أخرى، وذلك كما في تركيا، وكما نرى يومياً في سورية أو ميانمار. إنهم مخرجات "تأميم" الخطاب الديني الذي لا يعرف قبلةً إلا التسبيح بحمد الحاكم الذي ليس له من إنجاز إلا الدوس على رقاب شعبه. ببساطة، إنهم مخرجات حرمان شعوبٍ عربية وإسلاميةٍ كثيرة من آدميتها، ومن التكريم الذي أنعم الله به على الإنسان، من حيث كونه إنسانا.
ليس ما سبق محاولة للتبرير، وإنما هي محاولة للتشخيص والفهم، في أفق البحث عن حلول ناجعة. المشكلة أن كل ما سبق ليس فيه جديد، وكلنا يعرف حقيقة المرض في قرارة نفسه، حتى الذين يَصْطَنِعونَ "سقف الإرهاب" لمنع مثل هذا النقاش وطمسه. لقد أقر الرئيس الأميركي، جورج بوش الابن، يوماً بهذا التشخيص، عندما كان يراقب سقوط نظرية "الصدمة والترويع" التي تعامل بها مع العالمين، العربي والإسلامي. ففي خطاب ألقاه في نوفمبر/ تشرين الثاني 2003، قال بوش: "ستون عاماً من تغاضي الدول الغربية عن غياب الحرية وقبوله في الشرق الأوسط لم تجعلنا أكثر أمنا، وذلك، لأنه على المدى البعيد، لا يمكن شراء الاستقرار على حساب التحرّر. طالما بقي الشرق الأوسط مكاناً لا تزدهر فيه الحرية، سيبقى مكاناً للركود والاستياء والعنف الجاهز للتصدير. ومع انتشار أسلحةٍ قادرة على إحداث أضرارٍ كارثية ببلدنا وبأصدقائنا، سيكون من التهور القبول بالوضع الراهن".
إقرار إدارة بوش، حينها، بأن الخلل البنيوي في تركيبة الدولة العربية الحديثة، فضلاً عن الخلل في علاقة غرب-شرق، هو المصدر الأساس للاستياء والعنف، دفعها إلى أن تطلق برنامج: "دمقرطة الشرق الأوسط الكبير" مطلع عام 2005. ولكن، وبعد أن اتضح أن الديمقراطية ستأتي بمن لا تحبهم الولايات المتحدة من الإسلاميين، بدءاً بالإخوان المسلمين في الانتخابات البرلمانية في مصر أواخر عام 2005، ثم بحركة حماس في الأراضي الفلسطينية المحتلة عام 1967، مطلع عام 2006، انقلبت إدارة بوش على مقولاتها وتحذيراتها، وعادت إلى دعم أنظمة قمعية متخلفة، وهو الأمر نفسه الذي فعلته إدارة أوباما. فخلال ما عرف بمرحلة "الربيع العربي"، قال أوباما في خطاب له حول الإستراتيجية الأميركية الجديدة في الشرق الأوسط في مايو/ أيار 2011، إن: "الولايات المتحدة اتبعت لعقود جملة من المصالح الجوهرية في المنطقة: محاربة الإرهاب ووقف انتشار السلاح النووي، تأمين حرية التجارة، وضمان أمن المنطقة، والدفاع عن أمن إسرائيل والسعي إلى سلام عربي إسرائيل، وسنستمر في فعل ذلك". وأضاف: "ولكن، علينا الاعتراف بأن إستراتيجية قائمة فقط على تحقيق هذه المصالح الضيقة لن تطعم جائعاً أو تسمح لإنسان أن يعبر عن رأيه بحرية. أبعد من ذلك، لن يسهم الفشل في التعاطي مع التطلعات الأوسع للأناس العاديين إلا في تغذية الشك الذي تنامى لديهم سنوات بأن الولايات المتحدة تستهدف تحقيق أهدافها على حسابهم". وعلى هذا الأساس، اعتبرت وزيرة خارجيته، حينها، هيلاري كلينتون، في خطاب لها في العام نفسه، أن "نقطة البدء أننا نرفض الخيار الموهوم ما بين التقدم والاستقرار. لسنوات طويلة، قال الدكتاتوريون لشعوبهم إن عليهم أن يقبلوا المستبدين الذين يعرفونهم لتجنب المتطرفين الذين يخشونهم. وكثيراً ما قبلنا نحن أيضا تلك الرواية.. واليوم، إننا نعلم أن الخيار الحقيقي هو بين الإصلاح والفوضى".
ما سبق هو إقرار بأفواههم بجزءٍ من أصل المشكلة، قبل أن يرتدّوا عليه، ويدعموا دكتاتوريات مجرمة، ويستمروا في سفك الدماء عبر مقاربات أمنية-عسكرية، لم، ولن تنجح، ما دامت المظالم قائمة. لن ينتهي الإرهاب الذي يقوم به متطرّفون مسلمون، من دون أن نعالج، بشكل مواز، إرهاب أنظمةٍ عربية وإسلاميةٍ كثيرة، وإرهاب الغرب والشرق، والإساءة للإسلام والتطاول عليه. هذه حقيقة، وليس اعتذاراً عن الإرهاب الذي ندينه ديناً وخلقا، مع تأكيدنا أن إرهاباً لا يبرّر إرهاباً آخر.