عن الثقافة المحرّمة.. وانتظار الشريك

عن الثقافة المحرّمة.. وانتظار الشريك

24 مارس 2016

العلاقة الناجحة أساس الاستقرار (Getty)

+ الخط -
سُئلت يوماً عن مدى صحة اهتمام الإمام جلال الدين السيوطي بجانبٍ مسكوتٍ عنه، إلى حد كبير، في علاقاتنا الحميمة، وهو العلاقة الخاصة بين الرجل والمرأة، خصوصاً وأن السيوطي شهير بتفسيره للقرآن الكريم "تفسير الجلالين"، فقلت للسائل إن هذا الكلام صحيح، بل إن له أكثر من عشرة مؤلفات في هذا الباب، وكثير منها مطبوع ومتداول بين أيدي الناس. أكثر من ذلك، ثمة تراثٌ ضخم من المؤلفات المماثلة لكبار العلماء، تنشغل بما يجري من علاقةٍ خاصةٍ بين الرجل والمرأة، وعلى نحو تُصنف، وفق معيار هذا الزمان، كتباً إباحية، وهي ليست كذلك طبعا، بعد أن اختلفت المفاهيم واختلطت المصطلحات، وأصابها ما أصاب حياتنا من فوضى في جميع مناحيها!
كثيراً ما تحرجت من الكتابة في هذا الموضوع، مع قناعتي بأن الإنسان الفاشل في غرفة النوم لا يمكن أن ينجح في أي عمل، لأن ما يجري هناك حاجة إنسانية أودعها رب العزة في الكائنات الحية، شأنها شأن أي حاجةٍ عضويةٍ ووجدانية، لا تستقيم الحياة بدونها. ومن هذا الباب، انشغل عدد غير قليل من علمائنا الأجلاء، وبطريقة راقية، بما يمكن أن نسميه "فقه الجنس"، وهي تسمية يمكن أن تخدش مسامعنا للوهلة الأولى. لكن، بعد قليل من التأمل سنعرف مدى واقعيتها.
من السهل، هنا، أن يطلع علينا أحد القراء ليقول: أنت في إيش والناس في إيش (!) وهذا أمر محق للوهلة الأولى، لكن الجواب سيزيل ضبابية الرؤية، حين نعلم أن حياة الإنسان، والكائنات الحية الأخرى، تبدأ بنطفة، هي أصل الحياة، وبالنسبة للبشر تكتنف عملية الخلق الإلهي مشاعرُ إنسانية وآدابٌ راقية، لا بد من أن يتعلمها الإنسان، ضمن بيئةٍ نظيفة، وضمن أبواب وشبابيك مفتوحة، كي لا يلجأ إلى الخوض فيها تحت الأرض همساً، وفي سياق بيئة مشوشةٍ، ومن لدن رفاق سوء غير مختصين، ولا معنيين، الأمر الذي قد يدمر هذا الجانب في حياة الفرد، ويعيش بقية حياته في شقاء مقيم، من دون أن يجرؤ على الشكوى بدعوى "العيب"، مع أن العيب الحقيقي هو أن لا نعرف كيف نعيش حياتنا بشكل صحي ونظيف ومستوٍ، مع قيم ديننا العظيم الذي لم يجد غضاضةً في أن يعلمنا كيفية التصرف في كل شأنٍ من شؤوننا الحياتية الخاصة والعامة، ما دفع العلماء الكبار إلى عدم استثناء هذا الموضوع من اهتمامهم وتآليفهم، فتركوا لنا إرثاً ضخماً من الأدبيات المتكئة على أصولٍ شرعيةٍ، لا مراء ولا جدال فيها.
المجتمع السوي هو الذي يتصالح مع نفسه، ولا يعالج ملفاً دون آخر، بل يهتم بجميع الملفات على القاعدة نفسها من الاهتمام. ولكن، في سياق رؤيةٍ نظيفةٍ، لا تشيع الفاحشة، بل تمنع وقوعها وتجتثها من جذورها، ولا يتأتّى هذا، إلا إذا تفقهنا في شؤون ديننا كلها، فلا حياء في الدين، وخيركم خيركم لأهله، وأنا خيرُكم لأهلي، كما جاء في الأثر النبوي، والخيريّة هنا مفتوحةٌ على مصراعيها، وتشمل كل ما له علاقة بالأهل.
غير بعيد عن هذا الأمر، أعني الشقاء العاطفي الذي يعانيه الشركاء، من رجال ونساء، مسألة في غاية الأهمية، وهي عدم وجود شريك أصلاً، وتلك معضلةٌ في الشرق، تؤرق حياة الملايين، من أبنائه، خصوصاً إذا كانت الضحية أنثى!
هي فتاة في نهايات العقد الثالث، لم تزل على مقاعد الدراسة، تغطي مصاريفها من أهلها،
تعيش حالة الآلاف من فتياتنا العزباوات. صحيح أنها لم تصل إلى سن اليأس من وصول شريك العمر، لكنها، في الوقت نفسه، تشعر بأنها إنسانة غير مجدية، لا أهمية لها، ثم تذهب بعيداً في البوح، حين تقول "أحب أن أكون أهم امرأة في العالم، وأعظم أم، لكن هذه الرغبة الأخيرة أشعر أنه من غير الممكن حدوثها (!). هكذا أشعر دائماً، لذلك أشعر بالقلق والخوف من شماتة الناس، والنظرة التي سينظرون بها إلينا، كوننا لا يطرق باب بيتنا أحد، وإن جاء لا يعود، وإن كان يريد أن يأتي لا يأتي"! ثم تقول "ما أشعر به، قد لا يكون مشكلتي وحدي، فهي مشكلة كثيرين ممن هن في سني". هذه مقتطفات من البوح الشخصي لحالةٍ ما، لكنها، في حقيقتها، عرض لما تعانيه كثيرات من فتياتنا اللواتي كتب عليهن أن يجلسن في انتظار مجيء "الفارس" الذي قد لا يأتي أبداً!
كلما ذكرت أمامي مثل هذه الحالات، قفزت إلى نفسي فورا قصة زواج أم المؤمنين خديجة برسولنا محمد صلى الله عليه وسلم، وكيف خطبته لنفسها، على نحو أو آخر، مع أن سادات ورؤساء كثيرين في مكة كانوا يحرصون على الزواج منها، فتأبى عليهم وتردهم جميعا، لكنها وجدت ما تنشده في محمد صلى الله عليه وسلم. وهذا ما أفضت به إلى صديقتها نفيسة بنت منية التي ذهبت إليه، وكلمته أن يتزوّج صاحبتها، وقالت: يا محمد، ما يمنعك أن تتزوج؟ فقال: ما بيدي ما أتزوج به، قالت: فان كفيت ودعيت إلى الجمال والمال والشرف والكفاءة، ألا تجيب؟ قال: فمن هي. قالت: خديجة قال: وكيف لي بذلك؟ قالت: علي، وتم الزواج، وكان عمرها رضي الله عنها أربعين عاماً، وعمر رسولنا خمساً وعشرين. تُرى، لم لا تخطب فتياتنا من يردن من الشباب، اقتداءً بأم المؤمنين خديجة، ولم عليهن انتظار من يأتي ولا يأتي؟
وللسجون البيتية وجهها الآخر، الأكثر إيلاماً، فثمّة من الرجال من يقضي شبابه في الضلالات، فلا يترك متعةً من متع الشباب إلا ويجرّبها، يعيش حياته طولاً وعرضاً، يتقلب في "جحيمٍ" من الذنوب، يحيا طيشه كاملاً، حتى إذا دبّ المشيب في مفرقيْه، ورأى بناته وقد اكتمل نضجهن، استدعى فواتير الشباب، وهيئ له إن أوان التسديد قد حان، فاتخذ ما يرى أنه لازمٌ من احتياطات، مغلقاً عليهن الباب والشباك والهاتف، خوفاً من انتقام مفترض. حبيسات البيوت هن، ليس لذنبٍ اقترفنه، بل تحوطاً من ذنوب محتملة. حبيسات البيوت هن، يبحثن عن منفذٍ، فلا يجدن متّسعاً حتى لتنفس هواء نقي، أو كلمة حانية، او لمسة إنسانية.
الأنثى في الشرق، غالباً، مطالبةٌ بالاعتذار عن أنوثتها وجمالها، ومطالبةٌ أيضاً باختيار طريقةٍ ما لوأدها، فهي إما أن تندفن في بيت والدها للكنس والغسل والجلي وخدمة الأشقاء، أو تختار مدفناً آخر، يدعى بيت الزوجية، حيث تتحوّل إلى فقّاسةٍ، لإنتاج الأطفال ومربية لشطفهم والسهر على راحة الزوج، فيما هو يمارس ضجره داخل المنزل، وفرحه خارجه، وما عليها إلا أن تتمرّس في ممارسة دور الاسفنجة لامتصاص الصدمات والكدمات أيضاً، والهموم والاستعارة من الطنجرة غطاءها، لتستر عوراته وتقصيراته، وحتى ضلالاته ومغامراته النسائية ربما، وتحمّل ذلك كله طمعاً في تربية الأبناء والحفاظ على تماسك الأسرة.
حبيسات البيوت هنّ.. وهذه ليست دعوة للتفلت، وكسر طوق الحياء، هي دعوة لممارسة الحياة، وإعادة الإنسانية إلى مخلوقٍ جميلٍ ورائعٍ، طالما تغزلنا وهمنا به، وأحببناه، نحن الرجال قساة القلوب.