عن حال التعليم في سورية

عن حال التعليم في سورية

20 مارس 2016

المدخل الرئيسي لجامعة حلب (11 يوليو/2012/أ.ف.ب)

+ الخط -
يعتمد التعليم المدرسي والجامعي في سورية، بشكل عام، على التلقين، ويفتقر افتقاراً مُخجلاً لمفهوم البحث العلمي، وأكثر ما يعطي صورة عن تدهور وضعه وفقدان المدرسة هيبتها في مجالي التربية والتعليم، حين ندخل صفوف البكالوريا (الشهادة الثانوية) التي يحدد مجموع العلامات فيها مستقبل الطالب، نجد صفوف البكالوريا في معظم المدارس، إن لم أقل كلها، خاوية! لا مُدرسين ولا طلاب، فالطلاب والمدرسون في المعاهد التي تدّعي الدولة أنها ممنوعة، لكنها مُتكاثرة كبذور البقلة، أو أن الطلاب في بيوتهم يأخذون دروساً خصوصية في كل المواد، كما لو أن زمن الكُتاب انتعش وازدهر، وحتى أبناء الطبقة الوسطى يحمّلون أهاليهم أعباء مادية لدفع أجور الدروس الخصوصية. وغالباً ما تكون مهمة الأستاذ ليس تنوير عقل الطالب في تفهم العلوم والمعرفة، بل مساعدته وإرشاده إلى الطرق التي يحصل فيها على أعلى العلامات.
لا أنسى حادثة تثير الضحك، لشدة إيلامها، وهي أن أحد مدرسي اللغة الفرنسية سأل طالبه الخصوصي: هل تريد أن تتعلم الفرنسية، أم تحقق مجموعاً عالياً في فحص البكالوريا؟ وكان الرد الفوري للطالب إنه يريد المجموع العالي، فأعطاه المدرس حوالي 40 ورقة بالفرنسية، وهي أسئلة ومواضيع يتكرّر معظمها في فحص البكالوريا، وقال للطالب: أمامك سنة كاملة لتحفظها عن ظهر قلب. ثم حفظ الطالب ما طلبه المدرس، وأخذ العلامة الكاملة في اللغة الفرنسية في فحص البكالوريا، من دون أن يفهم كلمة فرنسية واحدة. تبدو هذه الحادثة مثل نكتة، إلا أنها دليل على انحطاط التعليم في سورية، حتى أن هنالك طلاباً يحفظون عن ظهر قلب مسائل الفيزياء والرياضيات وغيرها، بل انتشرت ظاهرة المُصغرات (الملخصات)، وهي تصغير الكتب إلى درجةٍ يمكن وضعها في الجيب، ليتمكّن الطالب من الغش في الامتحان، مع تواطؤ الرقيب أو بدونه. وقد وجدت إحدى الأمهات (سيدة تدّعي الإيمان وتقصد الكنيسة كل يوم أحد) تتشاجر مع صاحب مكتبة، لأنه تأخر في تسليمها مُصغر كتاب العلوم لابنها. وحين سألتها كيف تشجع ابنها على الغش في الامتحان، واستعمال المُصغرات، ردّت باستخاف: كل الطلاب يستعملون المُصغرات، ويكون ابني مظلوماً إن لم يستعملها. يومها، وجدت نفسي أمام امتحان حقيقي لمفهوم الأخلاق، وكيف أن الخطأ يسري كالوباء في المجتمع. ولو سألت أي طالب بكالوريا: ماذا ترغب أن تكون في المُستقبل، لقال لك: حسب مجموع علاماتي. وإذا أصريت عليه: طيب ما هي ميولك؟ تجده مرتبكاً، إذ ميوله مسحوقة، وغائبة تحت رهاب البكالوريا.
المرحلة الجامعية أكثر كارثية من وضع المدارس في سورية، ففيما يجب أن تتميز بالبحث
العلمي، نجد الكارثة، واستمرار نمط الحفظ عن ظهر قلب ومن دون فهم. وأعطي مثالاً كلية الطب التي درست فيها ست سنوات، وكان الوضع وقتها ممتازاً، إذ كان عددنا ثمانين طالباً فقط، وكنا مطالبين أن نحفظ نوطة (مقالات) الدكتور الفلاني ونوطة الدكتور العلاني، وأن نجيب عن أسئلة الامتحان كما كتبوا في كتبهم، ومن كان يطمح بالرجوع إلى المراجع، كان يحصد علامات متدنية، لأنه شذ عن الأستاذ. وأعجب كيف حذف لنا أستاذ علم الأعصاب مئة وستين صفحة من كتابه! وحين سألناه: ماذا لو صادفنا في حياتنا العملية مرضى مُصابين بأمراضٍ مما في الصفحات التي حذفها، زجرنا. ولا أنسى يومها حين انقضت علينا حملة تعريب الطب، وصار علينا أن نحفظ كل التعابير العلمية، وخصوصاً التشريحية (عادة يحفظها كل طلاب الطب باللغة اللاتينية) بالعربية، وصرنا كالببغاء، نحفظ هذا التعريب المهزلة، والذي لا دلالة له، مثل تعريب غضروفي الحنجرة بالغضروفين الطرجحاليين! وكنا نردد هذه التسمية، كما لو أننا نتكلم لغةً لا نفهم منها شيئاً. ولم نعرف من أين اشتقت تلك الكلمة، وما جذورها في قاموس العرب.
بعد سنوات، وحين شاركت في ندوة احتفال مجلة العربي باليوبيل الذهبي، وشارك فيها عارفون في اللغة وعلوم اللسانيات. يومها عادت بي الذاكرة إلى "غضروفين طرجحاليين"، وطرحت سؤالي موقوته على الحضور، واختلف الأساتذة، ولم يستطع أي منهم أن يجد معنى لكلمة "طرجحالي" في معاجم اللغة العربية. وهذا مثال، لأن أكبر خطأ كان تعريب المصطلحات الطبية، أو تعريب الطب: ما تعريب كلمة سيلللوليت مثلاً؟ إن لم يساهم العرب في الاكتشافات والاختراعات، أو المشاركة، فلا يُمكن تعريبها. وللأسف، لم يشارك العرب، منذ زمن طويل، في الاكتشافات والاختراعات العلمية، وتكاد تكون ميزانية البحث العلمي معدومة في الجامعات السورية، وأظن في الجامعات العربية أيضاً.
حين كنت في السنة الأخيرة لاختصاص طب العيون، في قسم الدراسات العليا في مشفى المواساة في دمشق، أردت وصديق لي أن نجري إحصائية عن أسباب العمى في سورية، بالتعاون مع الجمعية الفرنسية لأطباء العيون. وأقولها، هنا، إن أياً من أساتذتنا لم يدعمنا، بل كان هم كل منهم الإسراع إلى عيادته الخاصة. وكنت أتأمل معرفة الأسباب العديدة للعمى في سورية، وأصاب بالذهول، وأنا أتساءل مع كل طلاب الدراسات العليا: لماذا لا توجد دراسة جدية وإحصائية كبيرة عن أسباب العمى في سورية، كما لو أن الموضوع ترفيهي؟
زاد وضع التعليم سوءاً في سورية، بعد اندلاع الثورة، إذ اختنقت مدارس الساحل بالطلاب، وصار أكثر من ستين طالبا ينحشرون في قاعة واحدة، أما عدد الطلاب الجامعيين فبالآلاف، وإذا كانت في عام 1990 كل فئة في كلية الطب تضم أربعة طلاب اختصاص، يتمكن كل منهم ببساطة، ومن دون إزعاج المريض، من سماع دقات قلبه أو جس كبده، فالآن عدد الفئة من طلاب الطب أكثر من ستين طالباً، بالكاد يسمعون ما يقوله الأستاذ عن المريض. ولا يمكن لهؤلاء فحص مريض واحد. وإلى هذا الأمر، هناك الفساد المستشري في الجامعات، وبيع الأسئلة والوساطات، إلى ما هنالك.
يبقى إصلاح التعليم في سورية من أولويات الدولة، ليس لأن الجيل الجديد سوف يبني مستقبل بلده، بل لأن التعليم حجر الزاوية في بناء مجتمع سليم أخلاقياً (ينبذ ويحارب كل أساليب الغش كالمُصغرات وغيرها) وعلمياً، وبالأساس لأن اسم الوزارة وزارة التربية أولاً، والتعليم ثانياً. ومن الواضح أن مفهوم التربية هو الأخلاق.

831AB4A8-7164-4B0F-9374-6D4D6D79B9EE
هيفاء بيطار

كاتبة وأديبة سورية