تصريحات لأوباما ينبغي أن تُسْمِعَ الصُّمَّ العرب

تصريحات لأوباما ينبغي أن تُسْمِعَ الصُّمَّ العرب

18 مارس 2016

أوباما يمارس الأستاذية على العرب والمسلمين (16مارس/2016/Getty)

+ الخط -
لمن لم يستوعب بعد من العرب أن الولايات المتحدة حليفٌ لا يمكن الاعتماد عليه، ولا الوثوق به، نحيلهم إلى التقرير الطويل الذي نشرته مجلة "ذا أتلانتيك" الأميركية الأسبوع الماضي، وكتبه جيفري غولدبيرغ "عقيدة أوباما" في السياسة الخارجية. هو قائم على حواراتٍ ومقابلاتٍ كثيرة، أجراها غولدبيرغ مع الرئيس باراك أوباما، وعدد من أعضاء حكومته ومستشاريه لشؤون الأمن القومي، فضلاً عن مسؤولين رفيعين في بعض الدول الحليفة للولايات المتحدة، كبريطانيا وفرنسا.
في ذلك التقرير، تجد مستوى صادماً في صراحة أوباما، وبعض مساعديه، في الحديث بطريقةٍ، أقل ما توصف به، أنها استفزازية، إن لم تكن مهينة، عن بعض أقرب "حلفاء" أميركا العرب، وتحديدا المملكة العربية السعودية، ومطالبتهم بالقبول "مشاركة المنطقة" مع إيران. ولا يتوقف أوباما عند مطلبه ذاك، بل إنه لا يداري في تواطؤه في جريمة إبادة الشعب السوري على أيدي نظامه وحلفائه من الروس وإيران ووكلائها، بذريعة أنه لا يمكن للولايات المتحدة أن توقف ذلك من دون وضع قوات كبيرة على الأرض. طبعاً، لا يشير أوباما، هنا، إلى أن إدارته هي من وضعت، ولا زالت، "فيتو" على مساعي قوى إقليمية في المنطقة، لتسليح الثوار السوريين بأسلحةٍ نوعية، وتحديداً، صواريخ أرض-جو، للتصدّي لعربدة طائرات النظام الحربية التي كانت تزرع الموت والدمار بين السوريين، قبل أن تدخل روسيا على الخط، أيضاً، بقصف جوي بربري، يذكّر بدكها العاصمة الشيشانية، غروزني، في تسعينيات القرن الماضي.
في التقرير، يلقي أوباما مسؤولية تعبئة ما يصفه بـ"الغضب الإسلامي" على دولٍ صديقة، وتحديداً السعودية ودول الخليج العربي الأخرى. ويقتبس التقرير حواراً، حديثاً، جرى بين رئيس وزراء أستراليا، مالكولم تيرنبول، وأوباما، يشير فيه الأخير إلى أن السعودية ودولا خليجية هم من صَدَّرَ نسخة "وهابية" أكثر "أصوليةً" من الإسلام إلى إندونيسيا. وعندما يسأله تيرنبول: "أليس السعوديون أصدقاءكم؟"، يجيب أوباما: "إنها مسألة معقدة". بل ينقل التقرير عن مسؤولين في البيت الأبيض قولهم إنه كثيرا ما تسمع مستشاري أوباما في مجلس الأمن القومي الأميركي يُذَكِّرونَ زائري البيت الأبيض أن غالب مرتكبي هجمات الحادي عشر من أيلول/سبتمبر 2001، كانوا سعوديين، وليسوا إيرانيين، منتقدين النسخة التي تتبناها السعودية للإسلام.
ولا ينسى أوباما، في هذا السياق، أن يمارس "الأستاذية" على العرب والمسلمين، عندما يُقَرِّرُ أن الإسلام بحاجة إلى مصالحةٍ مع الحداثة، وإلى عمليات إصلاح كالتي عرفتها المسيحية من قبل. ومع إقرارانا أن ثمة إشكالات بنيوية في مقاربات كثيرين للإسلام، فقهياً ومنهجياً وفكرياً واجتماعياً وثقافياً، اليوم، إلا أن ذلك لا ينبغي أن يدفعنا إلى إغفال حقيقة أن ذلك جانب واحد من مشكلةٍ مركبةٍ معقدة. فهذا الجانب، على عِظَمِهِ وضرورة إصلاح خلله، لا ينساح في فراغ، وإنما هو يتغذّى، كذلك، من قمع وتخلف سلطوي في فضاء "عالم الإسلام"، كما أنه يتغذّى من عدوانٍ أجنبيٍّ على حياضه.
وعودة إلى مقاربة بعض الدول العربية التي بنت استراتيجياتها الدفاعية على موثوقية الحليف الأميركي، والتزامه نحوها، فأوباما، في ذلك التقرير، أطلق تصريحاتٍ تُسمع الأصمَّ أن ذلك الرهان وَهْمٌ أكثر منه حقيقة. فهو يشير إلى أنه خَلُصَ إلى جملةٍ من القناعات حيال المنطقة، وهي، أولا: أن الشرق الأوسط لم يعد مهماً، بشكل كبير، للمصالح الأميركية. ثانياً، أنه حتى وإن كانت تبقى أهمية للشرق الأوسط، أميركياً، فهناك القليل مما يمكن لرئيسٍ أميركي أن يفعله لجعله مكاناً أفضل. ثالثاً، أي توجه أميركي لإصلاح المشكلات التي تظهر في الشرق الأوسط ستقود، حتما، إلى حروبٍ، وستؤدي إلى مقتل أميركيين، وإلى إضعاف المصداقية والقوة الأميركيتين. وبناء على ذلك، فإنه يطرح الخلاصة الرابعة التي توصل إليها، وهي أن العالم لا يستطيع تحمل تراجع القوة الأميركية.
ولأن الشرق الأوسط لم يعد ذا أهمية كبرى، أو أنه لم يعد أولويةً أميركيةً ضاغطة، فإن أوباما
يدعو السعوديين والعرب إلى القبول بمشاركة إيران المنطقة، ويقول: "المنافسة بين السعوديين والإيرانيين، والتي ساهمت في إذكاء الحروب بالوكالة والفوضى في سورية والعراق واليمن، تتطلب منا أن نقول لأصدقائنا، وكذلك للإيرانيين، أن عليهم أن يجدوا طريقةً فعالةً، لكي يتشاركوا المنطقة، وأن يصلوا إلى نوع من السلام البارد". دعوة "تشارك" المنطقة هذه مع إيران، ينبغي لها أن تطلق أجراس الإنذار في كل عواصم العرب، ذلك أن أوباما لا يتحدّث، ببساطة، عن حق إيران في الوجود الطبيعي ضمن فضائها الإقليمي، واحترام مصالحها وحجمها، بل إنه يعتبر، كما يقترح تصريحه، أن سورية والعراق واليمن، ولا شك لبنان كذلك، أجزاء من "الكعكة" التي ينبغي تقاسمها مع إيران. بمعنى آخر، ينبغي لنا، نحن العرب، حسب منطق أوباما، أن نقبل إيران شريكاً ينازعنا مجالنا الجغرافي، وعمقنا الاستراتيجي!
ولكي يؤكد أوباما المعطى السابق من أن رهاناً من "حلفاء" أميركا العرب عليها سيكون خاطئاً، فإنه يقول، وبكل وضوح: "المقاربة التي تقول لأصدقائنا: أنتم على حق، إيران هي مصدر كل المشكلات، وبأننا سندعمكم في التعامل معها، سيعني، جوهرياً، أن هذه الصراعات الطائفية ستستمر بالتأجج، وليس لدى حلفائنا الخليجيين، أصدقائنا التقليديين، القدرة على إطفاء النيران بأنفسهم، كما أنه ليست لديهم القدرة على ربح المعركة بشكل حاسم وحدهم، وهذا سيعني أن علينا الذهاب واستخدام قوتنا العسكرية لحسمها لصالحهم. هذا لن يكون في صالح الولايات المتحدة، ولا في مصلحة الشرق الأوسط".
هل وصلت الرسالة؟ مبدئياً، يبدو أن السعوديين التقطوا الرسالة، وجاء الردُّ عبر الأمير تركي الفيصل، السفير السعودي الأسبق في واشنطن، في مقال نشره في صحيفة "عرب نيوز" السعودية التي تصدر بالإنجليزية. في ذلك المقال، شدد الفيصل على أن السعودية ليست عبئاً على أميركا، وذكّر أوباما بالشراكة التاريخية الأميركية-السعودية، وبالخدمات التي قدمتها بلاده للولايات المتحدة. ليس ذلك الرد كافيا، ولن يكون قادرا على إعادة بعث الحياة في العلاقات "التحالفية" الثنائية، فالردُّ السعودي الحقيقي ينبغي أن يكون أكبر من ذلك، وأوسع نطاقا، خصوصا وأن السعودية تتعرّض لضغوطٍ أميركية كبيرة، منذ قرابة العام، وليس فقط منذ تصريحات أوباما الأخيرة، للقبول بـ"مشاركة" إيران النفوذ في النطاق العربي. وما المطالب الأميركية من الرياض بوقف "عاصفة الحزم" في اليمن، والقبول بالحوثيين، المخلب الإيراني، جزءاً أساسياً في المعادلة السياسية فيه، ثمّ الضغوط الممارسة عليها لاستئناف مساعداتها الدولة والجيش اللبنانيين القابعين تحت وصاية حزب الله، إلا دلائل على ذلك. الأمر نفسه يمكن أن يقال عن المساعي الأميركية الحثيثة لحل الصراع في سورية عبر صفقة مع روسيا وإيران، وتحييد "الحلفاء" التقليديين للولايات المتحدة، وتحديداً السعودية وتركيا.
قد يجادل بعضهم بأن مقاربات أوباما ستذهب معه، وأن من وصفهم يوماً بـ"من يسمون حلفاءنا في الشرق الأوسط"، سيسترجعون مكانتهم تلك، في ظل إدارة قادمة، خصوصاً إذا كانت جمهورية، غير أن التمنيات تبقى آمالاً معلقة في الهواء، ولا ينبغي التعامل مع قضايا بهذا الحجم من الخطورة بمثل استخفافٍ كهذا. لا يقل الجمهوريون والديمقراطيون شراسة في نظرتهم للعرب، وخصوصا العربية السعودية. وتكفي، هنا، الإحالة إلى البرنامج الانتخابي لـ"الحمائمي" اليساري، بيرني ساندرز، المرشح الديمقراطي الطامح بتمثيل حزبه في الانتخابات الرئاسية أواخر العام الجاري.
الرهان على أميركا هو "كَسَرَابٍ بِقِيعَةٍ يَحْسَبُهُ الظَمآنُ ماءً حَتّى إذَا جاءَهُ لَمْ يَجِدْهُ شَيئاً" (النور: 39). هل، يا ترى، يفقه العرب ذلك، ويطلقون حملة مصالحات داخلية ومع الذات، ويحاولون إعادة بناء منظومةٍ أمنيةٍ عربيةٍ جَمَعِيَّة، قبل أن يلتهم الماردان الصهيوني والإيراني المنطقة!؟ فمن الواضح أن منطق توازن القوى الذي يريد الأميركيون إحداثه في منطقتنا بين قوى متنافسة، ليبقى زمام الأمر بأيديهم، حتى مع ابتعادهم النسبي عنها، لا يشملنا نحن العرب، ولا حتى تركيا، التي وصف أوباما، في التقرير نفسه، رئيسها، رجب طيب أردوغان، بـ"الفاشل" و"السلطوي"!

دلالات